«الترجمة» كلمة السر.. كيف انتقلت أوروبا من قرون الظلام إلى عصور النهضة؟

أثرت حركة الترجمة تأثيراً كبيراً في نقل أوروبا، فنقلتها من عصور الظلام والتخلف إلى عصور الانبعاث والتقدم والنهضة، وقد مرت حركة الترجمة بطورين :

الطور الأول: والتي تمت فيه ترجمة الكثير من المخطوطات إلى العربية بما في ذلك كتاب في علم الزراعة، كتبه (كولوميلا) وكتاب تاريخ عام ألفه (اوروسيوس)، وكتاب يبحث في التنجيم، وآخر في الاشتقاق لمؤلفه (إيزيدور)، وقد وقع على عاتق المسيحيين أحيانا القيام ببعض هذه الترجمات، وتم ترجمة عدد كبير من المؤلفات إلى العربية لفائدة العناصر المستعربة من المسيحيين، وليس للمسلمين فقط ، فقد تمت ترجمة ثلاث نسخ من المزامير، من بينها واحدة ترجمها حفص القوطي في سنة 276 هـ / 889 مـ شعراً، وكان المقصود بها خصيصاً ان تحل محل نسخة نثرية غير فصيحة كانت دارجة الاستعمال في ذلك الوقت، وكذلك تمت في سنة 357هـ/ 967 مـ ترجمة تقويم كنسي ألحق بأخر عربي يبحث في تقسيم السنة على أساس الثماني والعشرين دورة فلكية المعروفة باسم (منازل القمر) ، وأطلق على الترجمة اسم “تقويم قرطبة”.

الطور الثاني: يشمل الترجمة من العربية إلى اللاتينية، ويبدأ من منتصف القرن الخامس إلى أخر القرن السابع الهجري / منتصف القرن الحادي عشر إلى أخر القرن الثالث عشر الميلادي، وقد مر هذا الدور بمرحلتين الأولى تمت فيها ترجمة العلوم العربية المنقولة عن العلوم اليونانية، والمرحلة الثانية ترجمة العلوم العربية الإسلامية.

كانت أوروبا لا تمتلك من العلم اليوناني إلا القليل تمثل في مختصرات هزيلة وضعت منذ القرن الخامس الميلادي وإلى القرن الثامن الميلاد؛ لذا بقيت الدراسة في أوروبا ضئيلة محصورة في فئة قليلة من الرهبان، ولم تنتعش وتتطور إلا بعد تمثلها للعلوم العربية ولاسيما التي تشمل على أصول علوم اليونان التي ترجمها العرب المسلمين في عصر ازدهار حضارتهم .

سقوط طليطلة وازدهار حركة الترجمة
وبعد أن استرد الإسبان بقيادة الفرنسو السادس طليطلة عام 478هـ/ 1085 م، واتخاذها كعاصمة لمملكة قشتالة، قامت فيها حركة ترجمة نشيطة فقد امتازت هذه المدينة بكثرة مكتباتها، والتي حوت ألاف من المجلدات التي انتقلت إليها من المشرق، فضلاً عن ذلك بقاء الثقافة العربية فيها حتى بعد أن استردها الأسبان، وقد تم القيام بتخطيط برنامج شامل للترجمة عن طريق تأسيس معهد لترجمة الأعمال العربية إلى اللاتينية، ويرأسه كبير الشمامسة في طليطلة المدعو (دومينيكوس جونديسينوس) والذي يذكر بالمصادر العربية بـ(دومنجو غنصالفة) والذي برز نشاطه ما بين عام 1130وإلى عام 1180 م، والذي يعد من أشهر رجال الترجمة في العصر الوسيط من العربية إلى اللاتينية عن طريق الاسبانية العامية، فقد كانت الطريقة في الترجمة ان يقوم يهودي مستعرب – من أشهرهم في معهد الترجمة بطليطلة أبراهام بن غزرا – بترجمة النص العربي شفوياً إلى اللغة الإسبانية العامية، ثم يتولى غنصالفه الترجمة اللاتينية.

ومن بين ما ترجمه غنصالفة على هذا النحو بعض مؤلفات الفارابي، وابن سينا ، والغزالي، وكان يعمل بمعية غنصالفة عدد من المترجمين توجهوا من أنحاء أوروبا إلى طليطلة منهم الإيطالي (جيرار الكريموني) الذي وصف بأنه (الشماس) في إحدى وثائق كادرائية طليطلة المؤرخة في 11 آذار مارس 1162م ، حيث يدعى “جيرادوس المعلم” في وثيقتين أخريين من وثائق الكاتدرائية بتاريخ مارس 1174 م ، ومارس 1176م ، والوثائق الثلاثة ممهورة بتوقيع غنصالفة.

وقد قام جيرارد بترجمة كتاب الفارابي (تصنيف العلوم)، وترجم عدة مؤلفات لأرسطو، وبعض الشروح على أرسطو لمؤلفين عرب ومؤلفين إغريق سبق وأن تُرجمت أعمالهم إلى العربية، كما تُرجم عن العربية كتباً لأبقراط وجالينوس، وتُرجم كتابين اصيلين في العربية هما (القانون في الطب لابن سينا)، وكتاب “التصريف لمن عجز عن التأليف” لأبي لزهراوي، الذي يُعد القسم الأخير منه أشهر بحث في الجراحة.

واشترك (غنصالفة) مع رفيقه (افيندوف) ، و (جوهان الإسباني) بترجمة مصنفات الدارسين العرب واليهود الذين لخصوا وأعادوا ترجمة فلسفة أرسطو، كمؤلفات ابن سينا، والغزالي، وشاركه أيضا المترجمان الإنجليزيان (روبرت القيطوني و أدلار الباثي) فقد اشتهر أدلار الباثي بترجمة جداول علم الفلك لمسلمة المجريطي عام 1126 م.

وتحدثنا عن دور المهاجرين المسيحيين من ولايات الأندلس المسلمة إلى الممالك النصرانية في الشمال وما نقلوه إليها من معارف؛ و حركة التجارة والسياحة والعلاقات الدبلوماسية مع أوربا، والتي صاحبت ازدهار حضارة المسلمين في الأندلس.

كذلك حرصت الأديرة على اقتناء كتب الأندلسيين سواء بشرائها أو الإستيلاء عليها في المعارك وعكوف الرهبان على ترجمتها؛ وكانت هذه بداية فكرة حركة الترجمة في كافة بلدان أوروبا وبشكل رسمى وأكاديمي بعد ذلك.

واستمر نشاط حركة الترجمة في طليطلة في القرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي ، وهناك دليلان على هذا النشاط :

الدليل الأول: نقل حصيلة ذلك الازدهار في الفلسفة فـي اسبانيـا الإسلامية ففي عهد سيطرة الموحدين على المغـرب والأنـدلس (543 – 668هـ / 1146- 1269م) حدثت ثورة أصولية أرسطوية لم يسبق لها مثيل في أي مكان آخر من العالم العربي الإسلامي، وكانت الشخصية الرئيسية في هذا المشهد هي ابن طفيل (ت: 581 هـ / 1185 م) الطبيب الرسمي في بلاط زعيم الموحدين في قرطبة، ومؤلف الرواية الفلسفية (حي بن يقظان)، وقام البطروجي بتأليف كتاب سماه باسم (حركات الاجرام السماوية) المكتوب حوالي (600هـ / 1200م) والكتاب محاولة ثورية في علم الفلك تدعو إلى استبعاد نظام بطليموس القديم حتى يحل محله أنموذج يتفق مع (فيزيقيا) أرسطو .

الشارح الأكبر
ثم قام ابن رشد (ت : 594 هـ / 1198 م) عقب ذلك بالمشروع الأكثر طموحًا، وهو يضع ثلاثة مستويات من الشروح والتعليقات على جميع مصنفات أرسطو، وأضاف إليها فيما بعد تعليق على جمهورية افلاطون ،ومع ان الارسطوطاليسية الأندلسية لم تترك إلا أثراً في الدراسات العربية الإسلامية اللاحقة، إلا إنها تركت أثرًا قليلاً في الفلسفة اللاتينية والعبرية والعلوم الأخرى، وفي هذا المناخ الثقافي في قرطبة، تشكلت فلسفة ابن ميمون (ت: 600هت/1204م).

وبعد سنوات معدودات على تأليف مصنفات كل من البطروجي، وابن رشد تمت ترجمتها إلى اللاتينية والعبرية، حيث قام بالترجمات الأولى في اسبانيا (مايكل سكوت) وإليه تُعزى أقدم ترجمة لابن رشد ، والتي بدأها في إسبانيا ثم استكملها حين انتقل إلى ايطاليا.

والدليل الثاني: نشأة الترجمة الرسمية والمقصود بها القيام بالترجمة بصفتها جزءاً من السياسة العامة للدولة، إما بهدف تفخيم الأمة الإسبانية الحديثة الظهور، أو بهدف رد المسلمين الإسبان إلى المسيحية وربط الكنائس الشرقية بروما بعد توحيدها، ولتحقيق ذلك، كان لا بد من تعلم العربية، فقد أطلع بطرس الجليل (رئيس دير كلوني) أثناء زيارته إلى إسبانيا في مهمة دينية عام 1141م على بدايات الصراع المرير بين الإسلام والنصرانية في الأندلس، وكان ذلك أثناء حكم الموحدين.

وتوصل الى ان القوة المسلحة لوحدها لا تجدي نفعاً في محاربة الإسلام، وانما ينبغي اللجوء الى المنطق، وذلك بفهم الخصم أولاً، والإصغاء الى حججه وجدله ثانياً، وبما ان القرأن الكريم هو المرجع الاول لدى المسلمين، فقد تعين على الاوروبيين فهمه ولتحقيق هذه الغاية قام بطرس الجليل بتكليف (روبرت القطيوني) بترجمة القرأن الى اللاتينية وأجزل له العطاء، وقد لقيت ترجمته رواجاً واسعاً.

بطرس المُبجل وشراء المخطوطات
وقام بطرس المبجل بشراء كل المخطوطات المترجمة من قبل هرمان الكارنثي، وروبرت القطيوني وبيتر الطليطلي، والتي تعرف بـ(مجموعة طليطلة) والتي هي عبارة عن ترجمات لمخطوطات عربية عن الإسلام،كما ضمت القرأن الكريم وحياة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، ووصفاً للخلفاء الاولين، ومناظرة بين رجل نصراني ومسلم تعرف بـ(مناظرة الكندي)، وقد بقيت هذه الترجمات مرجعاً ثميناً للغربيين الذين يودون فهم الإسلام.

ففي القرن السابع عشر الميلادي. كانت لا تزال ترجمة روبرت القطيوني للقرأن الكريم مستعملة لدى البعثات التبشيرية النصرانية، كما غدا رد الكندي في المناظرة المشهورة شائعاً في العصر الحديث، وبعد مرور خمس سنوات على هزيمة الموحدين في معركة العقاب عام 609هـ/1212م، والتي تعد بداية النهاية لسلطة الموحدين في الأندلس توالى سقوط حواضرها الواحدة تلو الأخرى كقرطبة وإشبيلية ولم يبق سوى غرناطة كمملكة إسلامية وحيدة.

إبان ذلك انتاب أساقفة وملوك الإسبان شعور عظيم بالثقة وأمل كبير في جعل شبه جزيرة إيبيريا كاملاً إسبانية اللغة ونصرانية الديانة!، فانتشرت حركة الترجمة من العربية إلى الإسبانية ولا سيما في عهد الملك الفونسو العاشر، ملك ليون وقشتالة (1252-1284م)، فترجمت كتب كليلة ودمنة، وعشرات من كتب الفلك، ولم تكن لغة الترجمات هي الإسبانية فحسب، بل لقد جعلها تبدو وكأن المؤلفين انفسهم كانوا من الإسبان، فقد سُمي كتاب “غاية الحكيم” في التنجيم لمسلمة بن اأحمد المجريطي(ت:397هـ/1007م) مثلاً بـ” الحكيم الإسباني”.

وكان لهذا أثره في قيام اللغة الاسبانية أولاً، ومن ثم تقدم الدراسات العلمية في إسبانيا وانتقالها إلى أوروبا ثانيا، وأنشأ الفونسو الحكيم عام 1254م جامعة إشبيلية وخصصها لدراسة العربية واللاتينية.

تركز سيل الترجمة بشكل أولي على موضوعات العلوم العقلية، ففي مجال الرياضيات كان الغرب مدينًا للحضارة الإسلامية بمعرفة الأرقام وضمنها الصفر الذي حل مشاكل كثيرة في العمليات الرياضية، وكان أول من أخذ بالأرقام العربية (جربرت دي أورياك) وأدخلها أوروبا، وبعدها ألف كتاب يشرح فيه استخدام الأرقام العربية، وبعد فترة من الزمن تبنت أوروبا الأرقام العربية نتيجة أعمال (ليوناردو دي بيزا) الذي توفي عام 1240م، والذي كان قد درس الرياضيات على يد معلم عربي في المغرب العربي، وأصدر كتاباً يشرح فيه نظام الأرقام العربية عام 1202م، وكان ذلك بداية تبني أوروبا للأرقام العربية وبداية علم الرياضيات الأوروبي .

ومن اشهر الرياضيين العرب الذين عرفتهم أوروبا، وترجمت مؤلفاتهم إلى اللاتينية الخوارزمي الذي اشتهر في أوروبا بكتابه (الجبر والمقابلة)، والذي ترجمه الى اللاتينية (روبرت الشستري) عام 1145م، وظل هذا الكتاب يدرس في المدارس والجامعات الأوروبية حتى القرن السادس عشر الميلادي، ومن علماء العرب الذين لهم الفضل في مجال الجبر أبو بكر محمد بن جسن الكوجي (ت:407هـ/1016م) صاحب كتاب (الفخري في الجبر والمقابلة).

وطور العرب علم الهندسة والمثلثات الكروية وحققوا تقدماً واضحاً وقاموا بترجمة كتاب إقليدس في الهندسة، وهذه الترجمة العربية نقلها الأوربيون إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي، وظلوا يتدارسونها إلى أواخر القرن السادس عشر عندما عثروا على مخطوط من كتاب إقليدس باللغة اليونانية.

ومن علماء العرب الذين اشتهروا في هذا المجال جابر بن افلح الذي برز اسمه عام 545هـ، 1150م تقريباً في مؤلفه “حول حساب المثلثات الكروية”، وقاضي جيّان، أبو عبد الله محمد بن معاذ الجياني (ت: 486هـ/1093م) وأحرز أميران من أسرة بني هود بسرقسطة شهرة عظيمة لمواهبهما في الرياضيات والهندسة هما أحمد المقتدر بالله، وابنه يوسف المؤتمن الذي صنف كتاباً شاملاً في الهندسة سماه (الاستكمال)؛ واعتمد فيه على عدد كبير من المصادر بما فيه المبادئ لإقليدس، والبيان والافلاك لثيودسيوسش ومنيلادس، والمخروطات لأبولونيوس، وكتاب أرخميدس في الكرة والأسطوانة، وشروح أوتيكيوس على كتاب أرخميدس في الكرة والأسطوانة؛ كما اعتمد على مقالة ثابت بن قرة في الأعداد المتالفة، وكتاب البصريات لابن هيثم، ولم تكن معالجة الامير يوسف المؤتمن للمسائل الهندسية مقتصرة على مجرد إعادة إنتاج ما في المصادر التي اعتمد عليها، وإنما قدم في كثير من الحالات حلولاً أصيلة تثبت أنه كان هندسياً بارعاً.

وقد ترجم كتابه الاستكمال إلى اللاتينية من قبل المترجم هوجو الشنتالي، ومن علماء العرب الاخرين في علم المثلثات إبراهيم بارحيا (ت: حوالي 531هـ\1136م) الذي صنف كتاباً في علم المثلثات، ترجمه أفلاطون التيفولي، وجعل عنوانه “كتاب المساحات”.

وفي مجال علم الفلك والتنجيم، كان الإرث الأندلسي غني في هذا المجال، وكان هناك اتصال واض في الدراسات الفلكية من القرن الرابع الى الثامن الهجري/ القرن العاشر الى القرن الرابع عشر الميلادي، فقد درسوا مواقع الاجرام السماوية وحركاتها، وتوصلوا إلى العديد من الاكتشافات العلمية، والفوا الكتب فيها، وكان من أوائل علماء الفلك مسلمة بن أحمد المجريطي (ت: 397هـ/1007م)، وفي النصف الاول من القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي،و كان هناك رياضيون فلكيون بارزون هما: أحمد بن محمد بن السمح (ت:426هـ/1035م)، وأبي القاسم أحمد بن عبد الله المشهور بإبن الصفار (ت: 426هـ/1035م) .

كما كان هناك منجم هو ابن الرحال، وفي منتصف ونهاية القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي ظهر فلكيون بشكل متعاقب في إشبيلية هما:جابر بن افلح، والبطروجي، حيث برز الأول في كتابه “إصلاح المجسطي” الذي ترجم الى اللاتينية والعبرية، أما الثاني فقد انتقد المفاهيم النظرية لبطليموس.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى