إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب .. الكاتب / محمـــد الدكـــرورى

الحمد لله وفَّق من شاء لمكارم الأخلاق وهداهم لما فيه فلاحهم يوم التلاق أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الخلاّق، وأشهد أن محمدا عبد الله وسوله أفضل البشر على الإطلاق صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين أما بعد إن الأحكام التكليفية خمسة وهي الإباحة والندب والكراهة والوجوب، والتحريم، فأما المباحات فلا مشقة فيها من جهة الشرع لأن الخيار في فعلها أو تركها إلى المكلف، وأما المندوبات والمكروهات فنظرا إلى عدم إستلزام فعلها أو تركها لعقوبة يعلم أن للمكلف فيها خيارا كذلك، إلا أن الشارع رغب في فعل المندوبات وترك المكروهات لحصول الأجر، وأما الفرائض والواجبات فلم يكلفنا الله تعالى فيها ما فيه مشقة خارجة عن المعتاد، ولا ترك العباد من غير تكليف.
بل كانت الشريعة في هذا الأمر جارية على الطريق الوسط الأعدل، وأما باب المحرمات فإن التيسير فيه واضح، فإن الشارع الحكيم برحمته ضيّق باب التحريم جدا، حتى إن محرمات الأطعمة يوردها القرآن غالبا على سبيل الحصر والقصر، فالأصل في المطعومات ونحوها الإباحة، والتحريم هو إستثناء، وإن من النماذج الرائعة التي تجسدت فيهم حقيقة الصبر، وهو أنه أشهر من يقرن اسمه بهذا اللون من الصبر هو نبي الله أيوب عليه السلام، لقد أصابه ضر عظيم في بدنه وأهله وماله فصبر، فخلد ذكره في القرآن فقال الله تعالى ” واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب، وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث، إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب”
ولقد ذكر له من ألوان التكريم وأوسمة الشرف ما هو جدير بمثله لعظيم صبره، فأولهما تكريمه بتخليد ذكره ومباهاة الله به عند رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وثانيه: تكريمه بقوله “عبدنا” حيث أضافه إليه، والعبودية من أشرف أوصاف الإنسان التي يتحلى بها، وثالثها عندما استجاب نداءه وكشف ضره ووهب له أهله ومثلهم معهم، ورابعها هو حينما جعل له مخرجا من يمين حلفه على امرأته فكرمت وكرم بما يخلصه من مأزق الحنث، وكانت خاتمة ذلك هذا الوسام من الشرف العريض “إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب” فوصفه بالصبر حتى قرن الصبر بأيوب فلا يذكر إلا وهو معه، ثم قال نعم العبد فكانت شهادة من الله بتمام عبوديته، ثم ختم ذلك بقوله إنه أواب، والأواب هو المبالغ في شدة رجوعه إلى الله تعالى.
وقد ذكر الله تعالى صبره في موطن آخر فقال تعالي ” وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، فإستجبنا له فكشفنا ما به من ضر، وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين، وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين” ولقد كان نداء أيوب في ضرائه غاية في اللطف والأدب ولذا كانت الإجابة آية في التمام والكمال، ولقد نادى ربه ولم يسأله شيئا بعينه من الأهل والعافية وذكر ربه بما هو أهله وبما اتصف به “إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين” فإستجاب له دعاءه فكشف عنه الضر ورد عليه الأهل ومثلهم معهم وجعله ذكرى للعابدين وإماما من الصابرين.