ثابت الكوفي مع صاحب البستان

بقلم / محمـــد الدكـــروري

الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا، ودبر عباده على ما تقتضيه حكمته وكان بهم لطيفا خبيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وكان على كل شيء قديرا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة وبشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا، ثم أما بعد قيل أنه كان في أعرض شوارع الكوفة في بلاد العراق، هناك رجل يسمى ثابت بن إبراهيم، كان يمشي في أحد شوارع الكوفة ويمر ثابت على بستان من البساتين، وكان قد جاع حتى أعياه الجوع، فوجد تفاحة ساقطة منه، فأكل منها النصف، ثم تذكر أنها لا تحل له إذ ليست من حقه، فدخل البستان فوجد رجلا جالسا فقال له أكلت نصف تفاحة فسامحني فيما أكلت وخذ النصف الآخر.

فقال الرجل أما إني لا أملك العفو ولكن اذهب إلى سيدي فالبستان ملك له، قال أين هو؟ قال بينك وبينه مسيرة يوم وليلة، قال لأذهبن إليه مهما كان الطريق بعيدا، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال “كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به” فذهب ثابت حتى وصل إلى صاحب البستان، فلما دخل عليه ألقى ثابت عليه السلام، فرد السلام، قال ثابت وهو فزع قلق يا عبد الله أتدري فيم جئتك؟ قال لا، قال جئتك لتسامحني في نصف تفاحة، وها هو ذا النصف الآخر قال صاحب البستان والله لا أسامحك إلا بشرط واحد، فقال ثابت خذ لنفسك ما رضيت من الشروط، فقال تتزوج إبنتي، ولكن هي صماء عمياء بكماء مقعدة فقال ثابت قبلت خطبتها، وسأتاجر فيها مع ربي ثم أقوم بخدمتها، وتم عقد الزواج وقال له أبوها إن شئت جئتنا بعد صلاة العشاء لتدخل بزوجتك.

وجاء ثابت ليدخل على هذه العمياء الصماء البكماء القعيدة، وكأنه دخل إلى معركة حامية الوطيس، فلما دخل عليها حجرتها لا يعلم هل يلقي السلام عليها أو يسكت، ولكنه آثر إلقاء السلام لترد عليه الملائكة، فلما ألقى السلام وجدها ترد السلام عليه، بل وقفت وسلمت عليه بيدها فعلم أنها ليست كما قال الأب، فعجب من ذلك، ما هذا؟ لماذا أخبرني أبوك عنك بما أخبرني؟ قالت له وماذا قال أبي؟ قال لها أخبرني بأنك عمياء، فقالت إن أبي أخبرك بأني عمياء والله ما كذب فأنا عمياء عن الحرام فلا تنظر عيني إلى ما حرم الله، صماء من كل ما لا يرضي الله والله لا أسمع إلا ما فيه رضا الله، بكماء لأن لساني لا يتحرك إلا بذكر الله، مقعدة لأن قدمي لم تحملني إلى ما يغضب الله لا أمشي برجلي إلا إلى مرضاة الله، لا أمشي إلى مكان فيه غضب الله.

ونظر ثابت إلى وجهها فكأنه القمر ليلة التمام، وتزوجها، ودخل بها وأنجب منها مولودا ملأ طباق الأرض علما، إنه الفقيه أبو حنيفة النعمان، فمن نسل الورع والأمانة جاء الفقيه، وروى أن الإمام البخاري رحمه الله تعالى ذهب مسافرا إلى شيخ من الشيوخ ليروي عنه حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل المدينة لا يعرف أين الشيخ؟ فلما دخل في أحد شوارعها وجد رجلا مع فرس وهو يريد أن تلحق به الفرس، ووجد أنه قد رفع ثوبه كأنه يحمل في ثوبه شيئا، فرأى الفرس تلحق به، فلما وصل إلى بيته أمسك بالفرس وفتح ثوبه وإذا به خاليا ليس فيه شيء، فلما نظر البخاري إلى هذه الفعلة قال له أريد فلان بن فلان، فقال له الرجل وماذا تريد منه؟ قال لا أريد منه شيئا سوى أني حدثت أنه يروي عن فلان عن فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا،

وذكر الحديث، فقال هذا الرجل أنا فلان، وحدثني فلان عن فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا فماذا صنع البخاري؟ أبى أن يروي عنه، وقال إذا كان الرجل يكذب على بهيمته فأخشى أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه رسالة للعلماء والمحدثين وأخص الباحثين الذين لا يراعون الأمانة العلمية في نقولهم وبحوثهم، ونسبة الأقوال لأنفسهم، ونقل فصول كاملة بمراجعها على أنها من جهدهم، من أجل حصول أحدهم على شهادة يضر نفسه بها في دنياه، ويسأل عنها في أخراه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى