«لغز السرابيوم».. عبقرية المصري القديم وأسرار الحضارة الغامضة

اعداد/ رانيا البدرى
السرابيوم… هذا المكان المهيب الذي شيده المصري القديم ليكون مقبرة مقدسة للعجل “أبيس”، يفتح أبوابه على عالم مليء بالتساؤلات التي تتحدى المنطق البشري والتكنولوجيا الحديثة.
السرابيوم هو عبارة عن مقبرة مهيبة في منطقة سقارة خصصها المصري القديم لدفن العجل “أبيس”، الذي كان يُعتبر رمزًا للتقديس في الديانة المصرية القديمة. بدأ بناء السرابيوم خلال عصر الدولة الحديثة، تحديدًا في عهد الملك أمنحتب الثالث، واستمر استخدامه في عصور لاحقة حتى العصر المتأخر.العجل “أبيس” لم يكن عجلًا عاديًا، بل كان يُختار وفق معايير دقيقة جدًا. كان يُعتبر ممثلًا للإله “بتاح” ووسيطًا بين البشر والآلهة. وعند وفاته، كان يُقام له طقس دفن مهيب يليق بمكانته.
في عام 1851، قام عالم الآثار الفرنسي “أوجست مارييت” باكتشاف السرابيوم أثناء تنقيبه في سقارة. وقد أذهله التصميم المعماري للمكان، حيث وجد دهليزًا طويلًا يمتد لمسافة كبيرة تحت الأرض، تتفرع منه حجرات على الجانبين. داخل كل حجرة، يوجد تابوت ضخم مصنوع من الجرانيت، يزن حوالي 65 طنًا في المتوسط.اكتُشف حوالي 20 تابوتًا، بعضها مزين بنقوش وكتابات، من بينها تابوت يحمل اسم الملك خباباش، الذي حكم في العصر المتأخر.
* ألغاز السرابيوم
1- التوابيت الضخمة وتصنيعها
التوابيت الموجودة في السرابيوم مصنوعة من مواد صلبة مثل الجرانيت والديوريت، وهي مواد تحتاج إلى تقنيات متقدمة لتقطيعها وصقلها. حتى اليوم، لا يزال الباحثون يتساءلون: كيف استطاع المصري القديم، بأدواته البسيطة، أن ينحت هذه التوابيت بهذه الدقة؟
2- نقل التوابيت
يصل وزن التابوت الواحد إلى 65 طنًا، ومع الغطاء قد يصل إلى 100 طن. كيف تمكّن المصري القديم من نقل هذه التوابيت العملاقة إلى داخل السرابيوم، خصوصًا مع ضيق الممرات والحجرات؟
3- إغلاق التوابيت
بعد دفن العجل “أبيس”، كان يتم إغلاق التوابيت بإحكام. رفع الغطاء وحده يتطلب تقنيات متقدمة غير متوفرة في ذلك الوقت.
4- الحفر تحت الأرض
السرابيوم محفور بالكامل في الجبل، بدون أي وسائل تهوية أو إضاءة حديثة. العمل تحت الأرض في ظروف كهذه، مع تراكم الأتربة، قد يؤدي بسهولة إلى اختناق العمال. فما هي الأساليب التي استخدمها المصريون لتأمين بيئة عمل صالحة؟
5- التكنولوجيا المجهولة
بعض العلماء يقترحون أن المصريين القدماء كانوا يمتلكون تقنيات متقدمة لم تصل إلينا بعد. فتصميم السرابيوم، بحجراته المتقنة وتوابيته الضخمة، يُعد إنجازًا مذهلًا حتى بمعايير اليوم.
السرابيوم لم يكن مجرد مقبرة، بل كان رمزًا لعقيدة المصري القديم التي تقوم على احترام الطبيعة والآلهة. تقديس العجل “أبيس” يعكس فهمًا عميقًا لقيم الخير والخصوبة والأمومة، التي كان المصري القديم يسعى إلى تجسيدها في حياته اليومية.
و عند اكتشاف السرابيوم، واجه “مارييت” تحديات كبيرة في فتح التوابيت. اضطر إلى استخدام الديناميت لتفجير أحد الأغطية، مما تسبب في بعض الأضرار. هذه الحادثة تُظهر مدى صعوبة التعامل مع تلك التوابيت حتى باستخدام التكنولوجيا الحديثة.
رغم مرور أكثر من 150 عامًا على اكتشاف السرابيوم، إلا أن الكثير من أسراره لا تزال مجهولة. من التقنيات المستخدمة في البناء والنحت، إلى المعاني الرمزية للنقوش، يبقى السرابيوم شاهدًا على عبقرية المصري القديم وتفوقه الحضاري. السرابيوم ليس مجرد مكان أثري، بل هو تجسيد لعبقرية المصري القديم وإبداعه الذي تحدى به الزمن. ما زالت ألغاز السرابيوم تلهم الباحثين والعلماء في محاولاتهم لفهم أسرار هذه الحضارة العريقة. وبينما نواصل البحث، يبقى السرابيوم رمزًا خالدًا لتفوق المصري القديم في شتى المجالات، ودرسًا يعيد إلينا الإيمان بقدرات الإنسان عندما يتحد مع الطبيعة.