فرج احمد فرج يكتب: صالون الاموات

كتب / فرج احمد فرج 

باحث انثروبولوجيا

الدهشة بداية المعرفة .. فالانسان يندهش لما يراه ويسمعه ويحاول ان يفهم والذي لا يندهش لما يراه ويسمعه ، فهو ليس هنا وليس هناك .. انه غائب عن الدنيا .. او الدنيا قد غابت عنه ” ارسطو” .؟

كعادته .. قام بدعوة عامه لكل المهتمين والاصدقاء ومحبي الثقافة والمداومين علي حضور صالونه الاسبوعي .

وكان عنوان اليوم .. ” تعالوا نتكلم عن الذين رحلوا عنا وما تركوه فينا ” .

انتظر طويلا في الوقت المحدد للصالون وتململ في جلسته وظل ينظر تارة من الشباك والباب .. وكلما سمع صوت سيارة تقف .. يستعد ويجري ليفتح الباب .

ولكن مضي الوقت وقزح ولم يأتي أحد .. استسلم وانتبه ان الايام قيظ شديد لم تعرفه البلاد من زمان – والغرابة ايضا لاتوجد كهرباء .

جلس علي المنصة وأنكفأ علي المكتب وامامة زجاجة المياه الباردة والميكرفون ، ونظر للورقة التي اعدها وتسأل .. ياتري اني اخطأت في موضوع الندوة ام الميعاد .

ام انني لم اقم من الاساس بالدعوة .. نظر ثانية لاوراقه ليتأكد من الموعد والعنوان وانه لم يصبه خرف تقدم السن .. كلها صحيحة !

نظر في الموبايل ليتأكد اكثر .. فوجد..ان اعلانه كان ناقصا وافتقد ان يضع العنوان لمكان الصالون .

فقرر ان يترك لنفسه مساحة من التعقل والوجود والذات ، انه مازال يشغل حيزا من الفراغ ومازال ينقص قدره من اكسجين الحياة .

فغالبا كل انسان له ما يشبهه من الحيوانات ويستطيع ان يقارن ما يفعله ويفعله الحيوان الذي يشبهه .. كالمكر والخداع والقوة والافتراس والتحمل والوداعة والهدوء والاستئناس والصوت الجميل والمنفر كالحمار وكلما يتدرج الحيوان ويكبر .. تكبر معه صفاته حسب مراحل نموه واختيار نوعية و طريقة موته والمكان الذي ينعزل فيه ويحتضر .

لم اجد بدا غير ان اعقد الجلسة واستحضر الاموات وأدير الحوار للكراسي الفارغة واحدث اشخاص بعينهم اعرفهم وارد علي تساؤلاتهم وخاصة من اشخاص لا اعرفهم والتمس منهم الهدوء والالتزام بالنظام حتي لا تضيع مني الافكار بعد ان رتبتها في راسي طوال الليل وتسلسل الحوار .

تذكرت اعلامين واساطين غادرونا مثل يوسف السباعي واحسان عبد القدوس ومحمود السعداني وانيس منصور وهيكل – لاحصر وفنانين مثل ام كلثوم وعبد الحليم وعبد الوهاب وشادية وغيرهم كثر ولا حصر .

تذكرت حوار استاذنا العقاد في كتاب صالون العقاد ” كل الاشياء تبدو في ظاهرها جنونا او كفرا ” وعن رأيه عن ثورة يوليو كان يضيق بكثير مما يقال او مما يقوله الرئيس ” فيوم الاعتداء عليه كان يصرخ في الناس قائلا – انا الذي علمتكم الكرامة وانا الذي علمتكم العزة “ويقول العقاد ان شعبا يسمع مثل هذه العبارات ولا يثور عليه ويشنقه في مكانه لشعب يستحق ان يحكمه ويدوسه بالنعال .

واخر حينما اراد احد من الصفوة المدعوة لمجلسه ان يعرض وجهة نظره ويعرض افكاره .. صرخ فيه صادما انتم لا تعرفون شيئا ولا تدرون كيف تدار الامور .. نحن الذين نعرف ماهو صالح وما هوغث وما هو ثمين و صالح لكم .. نحن اؤلياء اموركم واسكته واجلسه في مشهد دراماتيكيا .

واخر عندما وقفت سيدة اعمال في عهده بعد ماصادر املاكها واغلق مشاريعها .. صرخ فيها محذرا اياها .. وكنا في مؤتمر عام واجلسها بعد ان نادها باسمها .

انه الغرور والغطرسة وادعاء بواطن المعرفة والالمام بالامور وانهم الملهمون والذين تأتيهم الحكمة والعلوم والخطط من السماء خصيصا .

وانا في حضرة نفسي في الصالون الفارغ والكراسي الميتة وليس عليها نفس واحد .. قلت بصوت عالي .. ولا ادري لماذا؟.. انا بعلي صوتي ليه.

في الحقيقة لم يوجد احد وربما لاني احدث نفسي التي اصمها الغيظ والحنق وتداعيات الامور المتردية وسط كم هائل من المنافقين والكاذبين للزعيم الملهم المغوار في بلد غزته امريكا و الذي وعد واغرق الديار ببحور من العسل واخري من اللبن المصفي ولم يتغير طعمه وكسي الارض ورودا وحدائق غناء .. فاض خيرها ولم يصبح بارضها طائر او حيوان او انسان فقيرا او محتاج او جائعا او جاهلا ومريض .

فكم الاوهام التي يخيمون بها علي الانسان ويفقده اهليته لاستيعاب المبادرات وتفقده الذاكرة من كثرتها فكل يوم اطلاق مبادره مع كلمة صباح الخير .. فاصبحنا لا نستطيع التميز بين الحقيقة والخيال ولماذا .. نذهب بعيدا استطاعت امريكا بمعونة هوليود تقنع العالم بالهبوط الاول علي سطح القمر .

ولا غرو ان تري حقول القمح والذرة والشعير وتستطيع امساك الاسماك وتقطف الثمار من الشجر وهذا مشمش وهذا برتقال وفراولة ومانجو وكانك تسير في الجنة الخضراء .

تذكرت استاذنا ” نجيب محفوظ” يقول افة حارتنا النسيان في اولاد حارتنا .. اعتقد لو كان حضر ثورة 25 يناير و30 يونيه .. كان غير مقولته لان حارتنا لم تنسي وان بها ناس احياء .. لاتنسي وبتثور !

تذكرت بعض الاموات .. كتبوا عن مراحل عاشها هذا الشعب ورأها بعينه ولمسها في كل تعاملاته مع البشر وكأنهم ليسوا معنا بل في بلاد اخري ومع شعوب اخري كانوا يكتبون عنها .. مجلدات وكتب زيفت الواقع .. فأضلوا ضمير الامة ومعها توالت النكسات وتبعوها بشعارات الهبت حماس الجماهير ودغدغت مشاعرهم وعواطفهم الملتهبة نحو حثهم العقيدي والديني ” كهتافات بالروح والدم نفديك يا زعيم” وبعدها مات مقتولا او مشنوقا وسط جحافل الثائرين مع شعار علي القدس رايحين بالملايين والكل قاعد ياكل عسل بالطحينه .ويمسح بيده القطرات التي تسيل من فمه وهو يردد .

تذكرت زعماء كانت اقوالهم اقوي من افعالهم وماتوا ميتة بشعة ” مات القائد في احتفال الجيش بنصر اكتوبر وهو كله ثقة انه بين ابناءه وصدام الذي افتدوا به الامريكان ليلة عيد الاضحي علي المشنقة والقذافي وعلي عبد صالح علي يد ابناء شعوبهم.. فكم من ملوك طعنوا وسط قصورهم وسجنوا بدورات المياه ومن قام بحبس ابائهم وعزلوهم كي يفرغ لهم الكرسي ويمتطوا صهوته بأي طريقة واخرين ظلوا بالسلطة حتي الهزيان والخرف والعجز عن الحركة .

امم تعشق الخنوع والهوان ولا تملك غير الصياح والانتقاد .

حدثتني روح صديقي الفنان المبدع وطالما انا في ندوة الاموات وطالبني اسال من قهرني وشوه عملي الفني بأنامل قذره وسرق منه حسه وابداعه وحلمه.حدثتني ارواح الابطال والشهداء والذين راحوا في معارك صنعها قادة لامجاد وشعارات الحريه ورقي الانسان فزجوا بهم لاراضي بعيدة واوطان غريبه ماتوا فيها بحسرة من المكسيك وسوريا والعراق والكويت وفلسطين واليمن وتخوم الغابات في الكونغو في افريقيا تحت شعار الحرية وتأمين مياه النهر وقطرات المياه المتبقية للحياة .

نبهني حارس المكان .. استاذ موعدك انتهي واريد اغلاق المكان .. وجاء بضلفه بعد اغلاق الانوار والكهرباء .. وكانه اغلق المقبرة علي الاموات .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى