كان يقرأ حياة السائل قبل أن يأتيه .. الكاتب/ محمـــد الدكـــرورى

الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى وأشهد أن لا إله إلا الله أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، لا تحصى نعمه عدا ولا نطيق لها شكرا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي المصطفى والخليل المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن على النهج اقتفى وسلم تسليما كثيرا ثم أما بعد لقد كان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم مفتيا، حيث قال تعالي ” يستفتونك في النساء قل الله يفتيكم ” وكان عليه الصلاة والسلام مؤيدا من ربه في علم الفتيا، فقد فتح الله تعالي عليه أبواب المعرفة وكنوز الفهم، فكان عنده جواب لكل سائل على حسب حاله وما يصلح له وما ينفعه في دنياه وأخراه، وكان الجواب ثوبا مفصلا على السائل يفصّله تماما على الذي أحسن، مع جمال الأداء وبهاء الإلقاء ومتعة التلقي منه، فكأنه قرأ حياة السائل قبل أن يأتيه
وألمّ بدخائله ومذاهبه قبل أن يستفتيه، وما ذاك إلا لقوة أنوار النبوة وبركة الوحي وأثر التوفيق والفتح الرباني، ويسأله شيخ كبير أدركه الهرم وأضناه الكبر عن عمل يداوم عليه، فأفتاه بعمل يسير يناسب حاله على أفضل عمل وأسهل عبادة وأيسر طاعة، في لفظ وجيز، ولو كان غيره لربما أوصى الرجل بالإجتهاد في الطاعة وإغتنام آخر العمر بالجدّ في العبادة مع إغفال ضعفه وإهمال شيخوخته، وانظر ما أجمل كلمة ” لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله” رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وجاءه غيلان الثقفي، وكان قوي البنية ضخم الأعضاء صلب الجسم، فسأله عن عمل يتقرب به الى الله تعالى، فقال ” عليك بالجهاد في سبيل الله” فلم يجد تخريجه، فانظر لحسن إختياره للعمل وملاحظته إستعداد الرجل وما يصلح له ويناسب حاله.
فيا لها من فطنة باهرة وحكمة عامرة، ولقد أكمل الله تعالي المحاسن لرسوله صلى الله عليه وسلم وأتم عليه نعمة الفضل وإختصه بالعناية حتى صار الأسوة الحسنة في كل فضيلة، فمنه تتعلم فنون المكارم، ومن برديه تنبع صفوة المناقب لأن من لوازم القدوة أن يكون مثاليا جامعا لما تفرق في الأخيار من سجايا حميدة، فكان عليه الصلاة والسلام ذاك الإنسان المجتبى من ربه المصطفى من خالقه، ليقود الناس الى أحسن الأخلاق وأنبل الأعمال وأكرم المذاهب، فأما مخبره عليه الصلاة والسلام فهو الطاهر المبارك الذي غسل قلبه بماء الحياة فصار أبيض نقيا مطهرا، وقد أذهب الله من صدره كل غيظ وحسد وحقد وغل وغش، فصار أرحم الناس قاطبة، وأبرّهم كافة، وأكرمهم جميعا، فعم حلمه وكرمه وطيبه وجوده الحاضر والبادي والقريب والبعيد، فنفسه أذكى نفس.
وباله أشرح بال، وضميره أطهر ضمير، وحق له أن يكون كذلك لأنه المرشح لقيادة العالم وإصلاح الكون وتقويم البشرية ” وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ” ولقد كان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أشجع الناس قلبا، ويكفي شجاعته مثلا أنه ما فر من معركة قط، وما تأخر عن القتال، وما نكص عند النزال، بل كان إذا حمي الوطيس وقامت الحرب على ساق واحمرت الحدق وتطايرت الرؤوس على أطراف السيوف وتكسرت الرماح على الجماجم، حينها تجد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ثابت الجأش ساكن النفس، عنده من الطمأنينة والثقة بربه ما يكفي أمة وما يفيض على جيش، أما كان في الغار مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقد أحاط بالغار كفار قريش معهم السيوف المصلتة والقلوب الحاقدة يريدون روحه صلى الله عليه وسلم بأي ثمن.
وهو أعزل من السلاح؟ فلما رأى تخوف أبي بكر عليه قال ” يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما” رواه البخاري، وهذا غاية الثبات ونهاية الشجاعة، ويفرّ المسلمون في حنين ولا يبقى إلا ستة من الصحابة، فيتقدم صلى الله عليه وسلم على بغلته الى جيش الكفار المدجج بالسلاح الكثير العدد القوي البأس، فيرميهم بحفنة تراب بيده ويقول ” شاهت الوجوه” رواه مسلم.