يا غلام إني أعلمك كلمات .. الكاتب/ محمـــد الدكـــروري

 

الحمد لله برحمته اهتدى المهتدون، وبعدله وحكمته ضلّ الضالون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، تركنا على محجّة بيضاء لا يزيغ عنها إلا أهل الأهواء والظنون، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا مَن أتى الله بقلب سليم ثم أما بعد هذا هو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم يركب راحلته ومعه ابن عباس رضي الله عنهما، فيوصيه صلى الله عليه وسلم بوصية حضرته في الحال، فيخرجها في حلة من البيان تأسر الألباب، ويضعها في طبق من الفصاحة يكاد يذهب ضوؤه بالأبصار، يقول صلى الله عليه وسلم ” يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك”

تعرّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله وإذا إستعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا ان يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفّت الصحف، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا” رواه أحمد، والآن أضعك أمام هذا النص الراقي من البيان، وأحاكمك الى عقلك هل رأيت في كلام البشر كهذا الكلام؟ حسن فواصل وعذوبة لفظ، وقوة معان، وأسر خطاب فقوله صلى الله عليه وسلم ” احفظ الله يحفظك” من الجمل المحفورة في ذاكرة البيان، والتي يسجد لها العقل السويّ في محراب الفصاحة، فإنها جمعت الوصايا في وصية، وإختصرت العظات في عظة.

فلو كان غيره صلى الله عليه وسلم المتحدث لقال احفظ الله بأداء أوامره يحفظك بنعمه، واحفظ الله بترك نواهيه يحفظك من عقابه، واحفظ الله في شبابك يحفظك في هرمك، إلى آخر تلك المقابلات، وإلى قائمة طويلة من المقدمات والنتائج والبدايات والخواتم، ولكنه قال صلى الله عليه وسلم “احفظ الله يحفظك” فلا أبدع ولا أروع ولا أوجز ولا أعجز من هذا الكلام الباهي الزاهي، ثم اقرأ الحديث جملة جملة، وقف إن كنت ذا ذائقة للبيان وذا دربة على سحر الخطاب، وخذ أي حديث من أحاديثه العطرة الزكية، هل ترى فيها عوجا من الركاكة، أو أمتا من التكلف؟ بل رقة في فخامة، وسهولاة في إشراق، وأصالة في عمق، فسبحان من أجرى الحديث على لسانه سلسا متدفقا أخاذا، ويقول صلى الله عليه وسلم ” إنما الأعمال بالنيات” رواه البخاري ومسلم.

فيكفي ويشفي ويفي المقصود، ويستولي على المعاني ويطوي مسافات من الأحكام والعقائد والآداب والأخلاق في جملتين زاهيتين جامعتين، فتصبح قاعدة للعلماء ومثلا للحكماء وكلمة شاردة للأدباء، وخذ مثلا كلامه على البديهة والفجاءة يدخل طفل من الأنصار له طائر يلعب به فمات فيقول ” يا أبا عمير ما فعل النغير؟” رواه البخاري ومسلم، فانظر الى تقابل العبارة وحسن السجعة وموازنة الجملتين، ويقول صلى الله عليه وسلم في حنين على وجه العجلة ” أنا النبي لا كذب أنا ابن عبدالمطلب” فلو أن علماء الكلام وأساطين البيان أرادوا هذا الكلام على عجلة من أمرهم لما تأتى لهم، ولا غرابة ان يكون صلى الله عليه وسلم أفصح الناس فإن معجزته الكبرى وآيته العظمى هو القرآن الكريم الذي أدهش الفصحاء وأفحم الشعراء وأذهل العرب العرباء، فلا بد أن يكون هذا النبي صلى الله عليه وسلم الموحى إليه بدرجة سامية من البيان الخلاب الجذاب الذي يستولي على الألباب.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى