أسبوع الأزياء الراقية لربيع وصيف 2025 وتصاميم تسعى لاختراق حدود الإبداع

المتابع العادي لموسم الأزياء الراقية، المعروف بالـ«هوت كوتور»، قد يرى الاقتراحات التي تطرح خلاله سريالية لا تمتّ إلى الواقع بصلة. غالبيتهم يستهجنونها وينعتون من يرغبن فيها ويصرفن عليها مبالغ طائلة، بالجنون. لكن في هذا الجنون تكمن كل الفنون بالنسبة لعاشقات هذا الخط. لا يبخلن على قطعة واحدة منه بمئات الآلاف من الدولارات. فهي لهن أكثر من مجرد أزياء. تختلف موادها وخاماتها لكنها فن قائم بذاته لا يُقدر بثمن.
هذا ما أكدته عروض هذا الموسم بالذات في هذا الأسبوع. لربيع وصيف 2025، استعرض المصممون أفكاراً غلبت عليها جُرأة خفّ مراسها في المواسم الماضية لعدة أسباب. فبعد أن كان هذا الخط فرصة للمصممين للغوص في الجانب الإبداعي واختبار الأفكار من دون قيد أو شرط، تحوَّل لفترة، تحت إملاءات المجموعات الضخمة ومتطلبات المساهمين والأسواق الجديدة، إلى تجارة يُفترض فيها تحقيق الأرباح. كادت تفقد روحها التواقة للتحليق إلى مستويات أعلى من الأزياء الجاهزة، لولا إصرار بعض المصممين ونجاحهم في إثبات أن عنصر جاذبيتها وإقبال شرائح الثريات والمتذوقات على كل ما هو فريد يكمن غالباً في فانتازيتها الفنية.
«سكاباريللي»
دانيال روزبيري، مصمم «سكاباريللي» واحد من هؤلاء. كان أول من افتتح أسبوع الموضة الراقية في باريس يوم الاثنين الماضي. اختار «إيكاروس» عنواناً لتشكيلته في إشارة إلى بطل الأسطورة الإغريقية، الذي حلّق قريباً من الشمس بجناحين من ريش وشمع. بهذا العنوان وحتى قبل أن يقدم المصمم اقتراحاته، جعل مجموعة من الأسئلة تتبادر إلى الذهن: إلى أي مدى يمكن أن يُحلِّق المصمم بخياله من أجل الإبداع؟ ومتى تكون هذه العملية واقعية ومدروسة ومتى تكون «دونكيشوتية»؟ والأهم من هذا ما الخيط الرفيع الذي يفصل إطلاق العنان للخيال والشطح به؟
المصمم الأميركي الأصل أجاب عن كل هذه الأسئلة في بيانه الصحفي قائلاً إنه في هذا الخط: «يطمح للوصول إلى آفاق عالية؛ إن الـ(هوت كوتور) وعد بالهروب من واقعنا المعقَّد. كما أنه يُذكرنا بأن الكمال يأتي بثمن». يتساءل: «إلى أي مدى يمكننا، نحن مصممي الأزياء الراقية، أن نصل؟ قد نصل إلى أقصى ما تسمح لنا به الشمس. فهذا الخط يسعى نحو الكمال. كل موسم قد نشعر فيه كأنه صراع شبيه بحكاية خيالية للوصول إلى مستوى مثالي من حيث التنفيذ والرؤية».
ما يُحسب لروزبيري أنه من بين قلائل ظلوا أوفياء لشخصية موسم الـ«هوت كوتور» بما في ذلك الجانب الذي يراه البعض سريالياً جانحاً إلى الفانتازيا والابتعاد عن الواقع، وفي الوقت ذاته وفياً لجينات الدار التي التحق بها في عام 2019. كانت مؤسستها إلسا سكاباريللي عاشقة للفن. جعلته الأساس الذي بنت عليه سمعتها، ولم تُغيِّر تفكيرها أو أسلوبها لمجاراة السوق حتى بعد أن جارت عليها الأيام ووصل بها الحال إلى إعلان الإفلاس. المقارنة بين إيكاروس وروزبيري اقتصرت على التحليق إلى أعلى الدرجات. فنهاية الأول كانت تراجيدية، بينما نجح روزبيري في إحياء اسم المؤسسة وفي الوقت ذاته مفهوم الـ«هوت كوتور» وسيلةً فنية للإبداع.
يشرح أنه انطلق من ألوان شرائط الزينة، مثل ألوان الزبدة، والزعفران، وصولاً إلى البنّي الزعفراني المحروق، الذي أطلق عليه اسم «التوست»، واللون الرمادي الدافئ الذي أطلق عليه اسم «المنك». أخذته هذه الألوان في رحلة عبر الزمن، كما يقول، إذ قضى شهوراً وهو يدرس تقنيات وأساليب مصممين من الزمن الجميل، أمثال مدام غري، وتشارلز فريدريك وورث، وبول بواريه، وإيف سان لوران وعز الدين علايا. بيد أنه أكد بشكل قاطع أنه تجنب استنساخ أعمالهم «حرصت فقط على أن أتعلم منهم». والنتيجة كانت معرضاً فنياً متحركاً أكثر منه عرض أزياء بالمفهوم التقليدي. تهادت العارضات في أشكال ملتوية تنساب على الجسم لتستحضر عشرينات وثلاثينات القرن الماضي. اعتمد فيها على حرير جورجيت المطرز بخرز ياباني، والذي يتم تثبيته لاحقاً على قماش كورسيه تم تشكيله خصيصاً ليظهر جوانب الورك بشكل حاد وصادم. أما السترات ذات الأكتاف الحادة فأعادت إلى الذهن أسلوب إلسا سكاباريللي نفسها، قبل الحرب، تعمّد دانيال تبسيطها وجعلها أطول.
كان عرضاً مختلفاً ذلك الذي قدمته ماريا غراتزيا تشيوري لدار «ديور» في الأسبوع الماضي. في رؤيتها جرأة ووضوح أكبر مما عوّدتنا عليه، كأنها تتعمّد أن تُعلن عن جانب إبداعي ربما تكون نوَّمته سابقاً، لتلبية متطلبات مجموعة «إل في إم إتش» المالكة للدار، ومتطلبات أسواق ترغب في تصاميم يسهل بيعها. لم يعد لها ما تخسره أو تخاف عليه، إذا صدقت الشائعات بأن جوناثان أندرسون، مصمم دار «لويفي»، مرشح بقوة ليتسلم منها المشعل قريباً، ويقود الدار الفرنسية إلى مرحلة جديدة، فإن هذه ستكون آخر تشكيلة «هوت كوتور» بتوقيعها لـ«ديور».
هذا قد يُفسِر جرأتها في اختبار أشكال وأحجام جديدة. تقول الدار في بيانها الصحفي إنها تشكيلة وُلدت من رحم «مواضيع جوهريّة متجذّرة في ذاكرة الأزياء، مستلهمة من روح الإبداع الذي ترك بصمة فريدة في القرون السابقة، مُتجاوزةً الحدود التقليدية بين الماضي والمستقبل، لتأخذنا إلى بُعد مستقل يعكس جوهر الموضة بحدّ ذاتها وفكرة التحوّل المُتأصّلة فيها». ترجمة هذا القول أنها عادت إلى أرشيف الدار تستقي منه، وتستكشف جوانب جديدة لواقع موازٍ. مثل أليس عندما دخلت عالم العجائب، أثار الفضول ماريا غراتزيا لاستكشاف عالم تهيمن عليه تحوّلات كثيرة وتتجلى فيه أحلام أساسها الدهشة والإبهار. وهكذا التقطت خيوطاً قديمة أبرزتها بشكل عصري. عادت مثلاً إلى مجموعة «ترابيز» Trapèze التي ابتكرها المُصمّم «إيف سان لوران» في عام 1958، عندما خلف كريستيان ديور الذي غيَّبه الموت فجأة. كانت آخر تشكيلة يقدمها لـ«ديور» لكنها دخلت كتب التاريخ. جسّدت المصممة الإيطالية هذا الخيط في تصاميم تجمع بين البراءة والجرأة، قادرة على تجاوز كل الحدود وتتكيَّف مع واقعها أينما كان وفقاً لمقاييسها، سواء كانت هائلة أو متواضعة.