هيام على بيومي تكتب: الخريف يعيش فينا

عجباً لرائحة الهواء فى فصل الخريف..كثيرون يرونه أقل جمالاً من غيره من الفصول لكننى أراه أجملها ..فرصة لتخلع الأشجار فيه ملابسها القديمة..تستعد بفرح لتغير رداءها الجاف..تثبت للهواء وللأرض كم هى قوية حين لم تمت حزناً على فراق أوراقها الراحلة دون وداع!
تلك الأوراق التى تحملتها تلك الشجيرات طويلاً..لقد أعطتها الغصون والفروع كل ما لديها من إكسير الحياة لكنها لم تكتفِ بذلك بل قررت الرحيل وترك أمهاتها تنذوقن الوحدة دونها..لاعجب أننى أحب ذلك الفصل الذى لا تبقى أى ورقة فيه متصلة بجذورها وأمهاتها سوى من امتلكن قوة إرادة ورغبة حقيقة فى رد الجميل بالتمسك بكل ما أعطى روحها لمعاناً وبريقاً يوماً ما..بالتمسك بأصلها ومنبتها..بتلك الجذور التى تضرب عميقاً فى موطنها الذى دونه أصبحت ورقة فى مهب الريح..لكنه من زاوية أخرى يُعتبر فصل الحرية..يثبت لنا ما لم يثبنه غيره.. حيث يعطي الحرية لوريقاته أن تبقى أو ترحل دون الحاجة للتبرير،مع أن رحيلها يكون سبباً فى نهايتها المحتومة،فهل من العدل أن تكون نهايتها ثمناً لحريتها المنشودة؟!
هل من المنطقى أن تكون أولى خطواتها نحو التغيير هى نفس الخطوات نحو الموت؟! هل التغيير يستدعى أن نموت من أجل تذوق طعم البحث عن الذات؟! لماذا تُجبَر تلك الوريقات على البقاء فى حضن أمهاتها دون فرصة للخروج من تلك القوقعة المفروضة عليها؟! ألا تستحق فرصة لتجريب حياة جديدة؟! ألا نُشبه لحد كبير تلك الورقات التى ملت البقاء كما هى دون فرصة لأن تملك صوتها الخاص؟! ألا نحتاج أحياناً فى سبيل البحث عن عالم جديد فراق كل ما ألفناه فى حياتنا القديمة؟! هل ردّ الجميل بالبقاء متمسكين بنفس الفروع التى تربطنا بقسوة بنفس المكان التى نبتنا به؟! ألا تستحق تلك الأوراق أن تُعطى فرصة لترتبط بغصون أخرى فى عوالم جديدة؟!
أعتقد أن أكبر هبه للبشر أنهم يملكون حرية الاختيار..يملكون القدرة على الرحيل لأرض جديدة تُشبع فضولهم دون الخوف من فقدان الصلة بالأصل والجذور..إنهم حين يفعلون لا يُعتبر تمرداً فحتى الأديان السماوية تحثنا حين نشعر بوحدة القلب على الرحيل علنا نقابل فى طرقات الحياة من يحتضن قلوبنا الغريبة..من يتمسك بنا بقوة فى وجه الرياح حتى ولو لم نشترك معاً بنفس الجذر..إننا لابد نُظهر الامتنان أننا نُعطى فرصاً ثانية وثالثة لنضرب بجذورنا فى أرض جديدة تُقدرنا وتحبنا وإلا ما فائدة الحياة إذا ضنت علينا جذورنا بالحب والنماء!..وما فائدة سعينا للبقاء إذا كان هذا البقاء سبباً فى قتل روحنا ..فى سلب كل جميل كان يربطنا بأرض نراها الوطن..ترى ما الوطن! ولماذا يجب أن نظل نلامس ترابه؟!
هل الوطن يعنى القبول بكل تغيراته دون اعتراض؟! هل يعنى قبول كل فصوله حتى لو طال فيه الشتاء؟! ألم نتعلم أن حروف الوطن تعني “وعد” “طين” “نور” بمعنى أنها قد تعنى “وعد من طين أرضنا أن نحيا فى النور”أو لنقل “وعد أن يصبح تراب الوطن نبراساً نهتدي بنوره فى دروب حياتنا المُتقلبة بين الشتاء والصيف والخريف”!
أم الوطن أن أظل مديناً له طوال عمرى أن سمح لجذورى أن تنبت به فلا أعترض أو أفكر حين يضن عليّ بماء الحياة..حين يمتص من قلبي الرحيق! وهل التفكير فى تجريب ثقافات و أحداث جديدة بثرى بلاد أخرى يعد تمرد وجحود؟!
أنا نفسي أبحث كل يوم عن معنى الوطن فى نفسي..أظننى أشبه تلك الأوراق المتمردة ولكنه كما اتفقنا ليس تمرداً بل رغبة فى الجديد،ترى لو فعلت ..سيقولون عني مُتمردة! لا يهمنى ماذا سيقولون..ففى كل الأحوال هم يبحثون عن قصص يرووها لبعضهم البعض كى يشبعوا فضولهم بحكايات الأخرين..حتى لو لم يجدوا ما يقصوه فإنهم لا يستحون ان يخترعوا قصص لم تحدث ويلبسوك أفعالاً لم تفعلها ..بل يصل الأمر أن تسمع على لسان بعضهم ما لم تعرفه أنت نفسك عن نفسك..أشعر أحياناً أن فضولهم ينساب تحت ملابسي بل يتعمق حتى يصل روحى..أشعر بعيونهم داخلي وكأننى يجب أن أستتر عنهم حتى بأفكارى، نعم ..أفكارى التى لا تحب مصاحبة أفكارهم ولا حتى قبولها ضيفة مؤقتة فى عقلي، لا يهم بما سيحكمون فلم أعد أهتم بأن استر روحي أمامهم،يوماً قريباً سأغير حياتي مثلما فعلت أوراق الخريف وسابحث عن وطن أخر ولو لم أجده سأخترعه، سأصلح أرضاً جديدة تليق بقلبي..بطموحي ..بشغفي..لا أعلم لماذا لا أجد فى هذه الأرض كثيراً من ذرات تُشبهني! فقط عائلتي هى ما يهم وما عدا ذلك لا قيمة له..فكلهم لا يستحقون مجرد التفكير فيهم..لا يتسحقون عناء الالتفات نحوهم كل صباح لتصنع ابتسامة مُزيفة خوفاص من نقد لاذع يضرب سمعتي فور عبورى بجوارهم..لن أسمح لنفسي تصنع أننى مثلهم وأن قلبي يُشبههم..لن أفعل ولن أكون سوى نفسي..ونفسي فقط هى من يجب أن تتحرر.