الدكـــروري يكتب: إرتباط الإنسان بوطنه وبلده

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا عزّ إلا في طاعته، ولا سعادة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في ذكره، الذي إذا أطيع شكر، وإذا عُصي تاب وغفر، والذي إذا دُعي أجاب، وإذا استُعيذ به أعاذ، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا، ثم أما بعد لقد إقترن حب الأرض في القرآن الكريم بحب النفس، فقال تعالى فى سورة النساء ” ولو كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ” واقترن في موضع آخر بالدين، حيث قال الله عز وجل فى سورة الممتحنة ” لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم” وكل هذا يدل على تأثير الأرض، وعلى أن طبيعة الإنسان التي طبعه الله عليها حب الوطن والديار، إن إرتباط الإنسان بوطنه وبلده مسألة متأصلة في النفس.
فهو مسقط الرأس، ومستقر الحياة، ومكان العبادة، ومحل المال والعرض، ومكان الشرف، على أرضه يحيا، ويعبد ربه، ومن خيراته يعيش، ومن مائه يرتوي، وكرامته من كرامته، وعزته من عزته، به يعرف، وعنه يدافع، والوطن نعمة من الله على الفرد والمجتمع، ومحبة الوطن طبيعة طبع الله النفوس عليها، ولا يخرج الإنسان من وطنه إلا إذا اضطرته أمور للخروج منه، كما حصل لنبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم عندما أخرجه الذين كفروا من مكة، فقال تعالى فى سورة التوبة ” إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين إذ هما فى الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا” وكما حدث لموسى عليه السلام، وقال الله تعالى فى سورة القصص ” فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله أنس من جانب الطور” وقال علماؤنا فلما قضى موسى الأجل طلب الرجوع إلى أهله وحن إلى وطنه.
وفي الرجوع إلى الأوطان تقتحم الأغوار، وتركب الأخطار، وتعلل الخواطر، ولما كان الخروج من الوطن قاسيا على النفس، صعبا عليها، فقد كان من فضائل المهاجرين أنهم ضحوا بأوطانهم في سبيل الله، فللمهاجرين على الأنصار أفضلية ترك الوطن، ما يدل على أن ترك الوطن ليس بالأمر السهل على النفس، وقد مدحهم الله سبحانه على ذلك فقال تعالى فى سورة الحشر ” للفقراء والمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون” وقيل عن حب الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وحنينهم إلى وطنهم مكة المكرمة “إن كان دعاة الوطنية يريدون بها أي الوطنية حب هذه الأرض، وألفتها والحنين إليها والانعطاف نحوها، فذلك أمر مركوز في فطر النفوس من جهة.
مأمور به في الإسلام من جهة أخرى، وإن بلال الذي ضحى بكل شيء في سبيل عقيدته ودينه هو بلال الذي كان يهتف في دار الهجرة بالحنين إلى مكة في أبيات تسيل رقة وتقطر حلاوة فيقول ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة، بواد وحولي إذخر وجليل، وهل أردن يوما مياه مجنة، وهل يبدون لي شامة وطفيل، وعن ابن شهاب قال قدم أصيل الغفاري قبل أن يضرب الحجاب على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل على عائشة رضي الله عنها فقالت له يا أصيل كيف عهدت مكة؟ قال عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها، قالت أقم حتى يأتيك النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يلبث أن دخل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له “يا أصيل كيف عهدت مكة؟ قال والله عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها، وأغدق إذخرها، وأسلت ثمامها، فقال “حسبك يا أصيل لا تحزنا”
وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ويها يا أصيل، دع القلوب تقر قرارها” أرأيت كيف عبر النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم عن حبه وهيامه وحنينه إلى وطنه بقوله “يا أصيل دع القلوب تقر” فإن ذكر بلده الحبيب الذي ولد فيه، ونشأ تحت سمائه وفوق أرضه، وبلغ أشده وأكرم بالنبوة في رحابه أمامه يثير لواعج شوقه، ويذكي جمرة حنينه إلى موطنه الحبيب الأثير العزيز، وأرأيت كيف أن الصحابة المهاجرين رضوان الله عليهم أجمعين، كانوا يحاولون تخفيف حدة شوقهم وإطفاء لظى حنينهم إلى وطنهم بالأبيات الرقيقة المرققة التي تذكرهم بمعالم وطنهم من الوديان والموارد والجبال والوهاد والنجاد.