تهاني عدس تكتب أزمة منتصف العمر

خاطرة بعنوان: أزمة منتصف العمر
بقلم: تهاني عدس
عندما وصلت لمرحلة عمرية ما، علمت ان البعض يصفها بأزمة منتصف العمر. لكن هل هي حقًا أزمة؟
الكثيرين ممن وصلوا لهذه المرحلة، يقولون إنهم مُشتاقون إلى نسختهم القديمة، ومعظمهم يتمنى العودة إليها.
أما أنا، فلا!
أنا لست مشتاقة الى تلك النسخة القديمة مني.
لا أكرهها، لكني لا أرغب في العودة إليها.
سامحتها، لكني لن أنسى مافعلته بي.
لولاها، لما وُجدت تلك الندبات بقلبي بفعل اللدغات المتكررة التي تلقيتها غدرًا ممن أحببتهم ووثقت بهم ثقة عمياء. في الوقت الذي كنت أشاهدهم فيه وهم يغيرون جلودهم مثلما تغير الثعابين السامة جلودها، كانت هي تجعلني اصدق كلماتهم وأفعالهم الخادعة، وتكذب عيني وحدسي.
ففي الوقت الذي افترضت فيه حُسن النوايا، اكتشفت ان كل ما تأذيت منه، كان مدبرًا بمكرٍ مقصودا.
لولاها، لما وُجدت تلك الشقوق بروحي، بسبب طعنات الغدر ممن ضحيت من أجلهم، ووضعت مصالحهم فوق مصالحي، وراحتهم قبل راحتي.
انها لم تكن نسخة سعيدة أبدًا، بل جهلي بحقيقة الناس والحياة هو من منحها سعادة زائفة وغير حقيقية، دفعتُ أنا ثمنها لاحقًا.
لم تكن نسخة بريئة أبدًا، بل كانت نسخة ساذجة تفتقر إلى الحكمة والفطنة.
لم تكن نسخة طيبة ابدًا، بل كانت نسخة مستباحة من المستغلين في كل حين.
لقد خُلقت في هذا العالم كالإسفنجة، امتص كل ما يُحيط بي سواء سلبيًا كان أم إيجابيًا. كثيرًا ما كنت أشعر بالثقل الشديد، كسفينة تائهة في عمق المحيط، تسللت داخلها المياه، فأصبحت على وشك الغرق.
كم من ليالٍ طوال قضيتها، وانا استرجع ذكريات حياتي، وكأني أشاهد فيلمًا سينمائيًا مليئًا بالأحداث المثيرة للشفقة.
مثلما يحدث في الأفلام، يتعرض البطل لحادث، أو ربما لموقف يسبب له صدمة نفسية، فيفقد الذاكرة بشكل مؤقت.
ثم يتعرض لصدمة أخرى، فتعود إليه ذاكرته، فيفيق من هذيانه ويكتشف مافُعل به وهو غير واعٍ لما حدث له.
ثم تأتي اللحظة الحاسمة التي تتحول فيها شخصيته، وتصبح نقطة التحول التي تتغير فيها حياته كلها ولا تعود كما كانت من قبل.
وهذا، ما حدث معي بالضبط! ا
في لحظة ما، استيقظت من غفلتي، وأدركت ما حدث لي، فعزمت واتخذت القرار بالتغيير، وتوكلت على الله…
تحولت من إسفنجة تمتص كل مايدور حولي إلى مرآة عاكسة، أرى فيها الدنيا بألوانها الحقيقية، بدلًا من اللون الوردي.
مرآة تعكس لي حقيقة الآخرين بلا تجميل، أرى فيها السىء كما هو، والجيد أراه جيدًا، أرى فيها نفسي كما هي دون مجاملة، ولا أكترث لتلك الأحكام المغلوطة ممن أساءوا فهم شخصيتي.
ولأن كل ما يدور حولي، ما هو إلا امتداد لفكري، كنت أصادف لما يعكس ما اعتقده في عمق صمتي.
فكان على أن أهدأ، وأعيد ترتيب أفكاري كما أرتب خزانتي؛ احتفظ بما احتاج واتخلص مما لا يفيدني.
اعتزلت الناس، وابتعدت عن ضجيج الحياة وصخبها لفترة، حتى أنصت لهذا الصوت الذي يصرخ بداخلي.
باتت تراودني تساؤلات ظلت حائرة بين ثنايا عقلي، وحاولت جاهدة ايجاد اجابات لها.
ساعدتني تلك التساؤلات في إعادة اكتشاف نفسي وفهم كل ما يحيط بي.
جعلتني أعيد النظر في كل الإرث الذي تركه لي أجدادي وآبائي من معتقدات وعادات وتقاليد من منظور ثلاثي الأبعاد، فرأيت الأمور من جميع الجهات.
ليس هذا فحسب، بل أعدت التفكير في كل القرارات التي اتخذتها في حياتي من قبل، توقفت عند بعضها متعجبة، ولم أفهم أين كان عقلي عندما اتخذتها.
ثم جاءت اللحظة الحاسمة التي تغيرت فيها تصوراتي وقناعاتي عن الحياة، وتغيرت رؤيتي للعالم، فتغير العالم من حولي.
هي تلك اللحظة التي تعلمت فيها ان اكون طيبة لا مستباحة، نقية لكن حذرة، صبورة لكن بحدود.
أدركت فيها أني مختلفة، لست أقل من أحد، ولا أفضل من أحد؛ أنا فقط مختلفه. وهذا مالم يدركه الكثيرين ممن تقاطع مسارهم بمسار حياتي.
كان لابد عليّ أن أترك كل ماهو سىء خلف ظهري وأصنع عالمًا موازيًا، يحوي كل ما ترضاه نفسي ويسعدها، طالما لا يغضب الله.
الكتابة كانت النافذة التي سمحت لي بأن أطل على هذا العالم الجديد. كنت أغمض عيني وأتخيل هذا العالم الذي يضم أفضل نسخة من نفسي يمكن ان أصل لها.
ثم ارسم صورة له باستخدام الحروف والكلمات، ساعدتني لاحقًا على التعافي والاستشفاء من جروحي القديمة التي أصابتني في معاركي مع الحياة.
هكذا طورت إدراكي الداخلي أولًا، ثم تغيرت الظروف المحيطة بي؛ بدأت الصدف الجميلة في الظهور، اختفت العلاقات السامة وظهرت علاقات صحية بدلًا منها، وكل باب أغلق في وجهي، فتح الله لي بدلًا منه عشرة.
لقد كلفني الأمر الكثير من الوقت والمجهود كي أصبح بنسختي الحالية، والنتيجة كانت حقًا تستحق. بالرغم من ذلك، أنا لم أصل للنسخة التي تخيلتها بعد.
هذا هو ما حدث معي خلال تلك المرحلة. لا شك انها مرحلة حرجة، ستتوقف عندها كثيرا. ستجد نفسك أمام حاجة مُلحة إلى التغيير، بل والتمرد على كل شيء.
ستنقشع تلك الغمامة من على عينيك وتقوى بصيرتك، وتتضح الصورة الحقيقية للأشخاص والأشياء والمواقف. ستعيد اكتشاف نفسك وكل مايحيط بك.
ستشعر خلالها وكأنك تحت تأثير زلزال قوي، يزلزل حياتك وكيانك وروحك، ويسبب لك صدوعًا وشروخًا قوية.
سيجعلك تفكر؛ هل تهدم كل شيء وتبدأ من جديد؟ أم ترمم تلك الصدوع والشروخ، وتكمل حياتك حتى ولو لم تعد كما كانت من قبل؟!
هي حقًا مرحلة صعبة، تتطلب الكثير من الصبر والحكمة، لكنها ليست أزمة كم يصفها البعض.
الأزمة الحقيقية هي إذا خرجت من هذه المرحلة مهزومًا ومكسورًا بعد خوض صراعًا عنيفًا مع نفسك، فتفقدها وتفقد معها كل شيء أنجزته وحققته في مراحل حياتك السابقة.
لن تكون أزمة، إذا اتخذتها فرصة للوقفة مع نفسك والحياة معًا، وانتهزت هذه الفرصة في اعادة بناء نفسك، والتخلص مما يثقل روحك ويرهقها.
كل هذا سيمكنك من الوصول إلى أفضل نسخة منك، ولن تحن إلى نسختك القديمة.