من المعتقل… إلى النسيان: بقلم/ محمد كمال قريش

منذ دقائق، سمعتُ حوارًا عابرًا بين أحد عمال النظافة وسيدة منزل:
> – مات في السجن، بيذيعوا عليه ليه؟!
– مين؟!
– أنا أصلًا مش هروح، ومش هاكل!
كنت أكنس أمام المحل الذي أعمل به، فجذبني الحوار. أهي قضية مبادئ وأخلاق عند هذا العامل مثلًا؟
أيكون ذاك السجين المتوفى قد ارتكب جُرمًا بشعًا استحق نفور هذا العامل منه، ومقاطعة مأتمه وواجب مواساة أهله؟
خصوصًا وأن الناس في قرى الأرياف أهل، والبيوت كلها بيت واحد!
هل أخطأ في حق المجتمع أو قريته بفضيحة ما، تستلزم البُعد عنه وعن سيرته حتى بعد مماته؟
> – مات في المعتقل… قعد 15 سنة ومات.
قالها ببرودٍ متناهٍ. لم تحمل نبرة صوته أي شعور؛ لا شفقة، ولا شماتة، لا سعادة، ولا حزن.
قالها كخبرٍ عادي، كنتيجة حتمية، ومنطقية، لما اعتقد هذا العامل المتقدّم في السن أنه ارتكبه؛ كعقابٍ مستحق لا خلاف عليه.
قالها وختمها بنقطة. لا علامة تعجب، ولا استنكار.
من يكون؟!
كرّرت السيدة سؤالها:
> – مين؟!
من هذا الذي توفّي في معتقله بعد خمسة عشر عامًا؟
أخبرها باسمه، لكنني لم أعرفه.
لم أعرف إن كان قد اعتُقل صغيرًا أم كبيرًا.
إن كان طالبًا في كلية فضاع مستقبله، ثم ضاع هو في النهاية.
أم موظفًا، أم عاملًا، أم فلاحًا، أم…؟
هل كان أعزبًا، أم زوجًا لامرأةٍ انتظرته طيلة تلك السنوات؟
ثم جاءها… جاءها خبره!
وربما كان أبًا لطفل كُتب عليه ألّا يرى والده طيلة خمسة عشر عامًا، ثم لا يراه أبدًا!
أن يُحرم منه إلى الأبد، وقبل رحيله بخمسة عشر عامًا!
عزاءٌ صامت
خمسة عشر عامًا… لا يعرف المرء كيف انقضت عليه!
وربما كان عزاءه خلالها أنه يُعاقب على شرفه ومبادئه ونُبله،
تلك التي صارت أشياء نادرة، ومن يتحلّى بها يعتبره الكثيرون “مختلفًا”… ويجب التخلّص منه!
ربما كان عزاءه أن ما دافع عنه، ومن دافع عنهم، يستحق ويستحقون.
وأنه ما احتمل كل تلك السنوات إلّا ليقينه بأنه على حق،
وأن من هم خارج تلك الجدران يستحقون الثورة لأجلهم، والتضحية من أجلهم.
وربما… لو تخيّل الحوار الذي سمعته أنا، أو توقّعه، لفارقت روحه جسده منذ زمن بعيد.
قصص تُشبهه
أتذكّر هنا تلك القصة التي لا أعرف إن كانت حقيقية أم لا:
قصة جيفارا وراعي الأغنام، الذي أبلغ عنه لأن “ثوراته وحروبه تخيف أغنامه!”
وقصة محمد كريم مع نابليون، حين قال له قبل إعدامه:
> “سأعفو عنك مقابل عشرة آلاف قطعة من الذهب”.
فلما قصد محمد كريم تجّار بلاده الذين ثار من أجلهم، عاد مخذولًا مكسورًا.
فقال له نابليون:
> “ليس أمامي إلّا إعدامك. ليس لأنك قاومتنا،
بل لأنك دافعت عن أشخاصٍ جبناء، تشغلهم تجارتهم عن حرية الأوطان!”
وإن كانت قصصًا مؤلّفة، فإنها تعبر بصدق عن واقعٍ نعيشه ونلمسه كل يوم وساعة…
واقعٌ يقاوم فيه الثائر أبناء شعبه الجهلاء الجبناء الخائنين،أكثر مما يقاوم طغيان المحتل… أو طغيان الحاكم!