الزهرة العناق تكتب: ضياع الإنسان

في متاهة الحياة المعاصرة، لم يعد ضياع الإنسان رهينا بانعدام الطريق، بل بانطفاء البوصلة التي تسكن داخله. لم يعد تائها لأنه لا يعرف وجهته، بل لأنه فقد شعوره بالوجهة نفسها. الإنسان اليوم لا يسير في طريق مجهول، بل يغرق في زحام معروف يبتلع ذاته و يذيبها في صخب الحشود.

كان الضياع يوما ما فعلا بريئا، يقترن بالبحث والحنين، أما اليوم فقد بات الضياع نظام حياة. يتحدث الإنسان كثيرًا عن الحرية، لكنه لا يدرك أنه سجين رغبات صنعت له لا منه. يركض خلف معايير النجاح التي رسمها له آخرون، ويقيس سعادته بعدد الإعجابات، لا بصفاء روحه.

ضياع الإنسان ليس مجرد غياب عن الذات، بل هو طمس للهوية، تزييف للقيم، وتبديل للمقاييس. تجد إنسانا يتقن لغة الأجهزة ولا يعرف لغته الداخلية. يعيش بين الناس ولا يعيش معهم. ينتمي إلى كل شيء إلا نفسه.

الضياع ليس دائمًا صاخبا. أحيانا يكون هادئا، متسللا، يتسلل إلى قلب الإنسان كغفوة قصيرة تتحول إلى سبات طويل. يبدأ الأمر بإهمال سؤال “من أنا؟”، ثم تتوالى التنازلات، حتى يستيقظ المرء يومًا ليجد نفسه شخصًا لم يختر أن يكونه.

النجاة من هذا الضياع لا تكون في العودة إلى الوراء، بل في التوقف عن الانسياق، في التأمل، في الإنصات إلى الصمت الداخلي الذي طالما أغفلناه. في مواجهة المرايا لا الصور، في إعادة بناء الذات من داخلها لا من مظاهرها.

ضياع الإنسان، في حقيقته، ليس قدرا، بل نداء. نداء للعودة إلى البذرة الأولى، إلى النقاء الأول، إلى الإنسان كما أراده الله: كائنا يعرف، يشعر، ويسعى للحق قبل الربح، للسلام قبل الصيت، وللحقيقة قبل الانتماء.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى