أخذونا إلى إحدى المدارس إلى الطابق الثاني تحديدا ، اختاروا لنا صفا كمسكن مؤقت . عندما دخلنا الصف وجدنا عائلة سبقتنا إليه . كانوا مثلنا…. مرهقين ، مذهولين ، يحملون على وجوههم آثار الليل الطويل و الهروب المُر . وجوههم باهتة ، كأنها خرجت لتوّها من بين أنياب الجحيم .
معنا كانت أختي الصغيرة ، لم تُكمل شهرها الرابع . جفّ جسدها الصغير من قلة الحليب و الماء ، و الماء الذي شربته في الجبل لم يكن ماء… كان مرا كالفقد .
مرضت كثيرا ، و أُنهكت أمي من البكاء و الخوف أخذناها إلى المستشفى ، وهناك قالوا: “جسمها جفّ تماما…” كأنهم يقولون لنا : الطفولة لا تحتمل هذا الموت البطيء .
تعافت بعد أيام أو هكذا أردنا أن نُصدق . وحين عدنا ، اشترينا هاتفا بسيطا كنا نحتاجه لنسأل عن الغائبين ، عن من بقي ومن ابتلعته الأرض .
في أول اتصال ، قالوا لنا إن عمي وزوجته قد اختُطفا على يد المتطرفين . عمي كان إنسانا بسيطا….. معاق لا يستطيع السير ، فلم يصعد الجبل. بقي في قريتنا القديمة ، القريبة من الجبل ، ينتظر قدره . زوجته رفضت أن تهرب بدونه، و بقيا معا حتى سقطا في قبضة الظلام .
في اتصال آخر ، قالوا إن جارنا الفقير ، راعي الغنم ، اختُطف مع جميع أفراد عائلته…. عشرة أرواح اختفوا في لحظة .
و في اتصال ثالث ، قالوا إن إحدى قريباتنا العجائز ماتت عطشا في الجبل . صرخت كثيرا قبل أن تسكت للأبد… حتى الجبال سمعت صوتها، لكن أحدا لم ينقذها .
كلّ اتصال كان كالخنجر في القلب كأننا خرجنا من جبل الموت لنُسحق بأخبار من تبقى هناك . تلك المكالمات كانت أشد وجعا من الجوع والعطش والبرد .
مدير المدرسة علق شاشة تلفاز في القاعة ، نراقب منها أخبار سنجار . ننظر إلى الصور، و الدموع على وجوهنا . أجسادنا كانت في المدرسة، لكن أرواحنا ظلت هناك معلقة على أسوار سنجار… تنتظر خبرا يطمئن القلب المكسور .
أهالي المنطقة جاؤوا إلينا . تبرعوا بالملابس ، بالطعام ، بالماء… عاملونا كأننا أبناؤهم ذلك وحده خفف قليلا من وجع الغربة و في عيونهم حزنٌ، كأنهم يقولون: “ليت الأمر لم يكن هكذا…”
بعد شهرين ، و قفت شاحنات أمام باب المدرسة . قالوا لنا : “نصبنا لكم خيما قرب دهوك ، ستذهبون إليها” . ركبنا الشاحنات ، و كلّنا أمل أن يكون ذلك المكان أكثر دفئا….. لكن الخيام كانت كالكفن الأبيض .تُخبئنا في النهار، و تخوننا في الليل .
في الصيف كانت الشمس تذيبها كالشمع و في الشتاء، يغمرها المطر حتى تختنق . سمعنا عن خيم احترقت عن أطفال ماتوا وهم نائمون .
الأمهات تحوّلن إلى حارسات ، يسهرن حتى الفجر ، يحمين أطفالهن من نار قد تشتعل و نحن نغطّ في النوم. كنا ننام بعيون نصف مفتوحة ، لا نثق حتى بالهدوء الذي يسبق الفاجعة .
ومع كل هذا ، قيل إن هناك مدرسة فُتحت للنازحين في مدينة قريبة . ذهبتُ أنا وأخي ، وسجّلنا أسماءنا. عدتُ للدراسة ، لكنني لم أعد كما كنت…. شيء بداخلي انكسر في الجبل ، وظلّ هناك ، بين الصخور ، ينتظرني… أو ربما… لن يعود .