«مسجد الملكة صفية».. جوهرة معمارية في قلب الدرب الأحمر

اعداد/ رانيا البدرى

في قلب القاهرة التاريخية، وتحديدًا بحارة الداودية في حي الدرب الأحمر، يتربع مسجد يحمل اسمًا نسائيًا استثنائيًا في التاريخ العثماني، وهو «مسجد الملكة صفية». وراء هذا الاسم تختبئ حكاية درامية مثيرة لسلطانة عثمانية لم تكن مجرد جارية بل سيدة حاكمة بذكاء ودهاء، أثرت في دواليب الحكم وأسهمت في تشييد معلم ديني وفني خالد في الذاكرة.

هذا التقرير يروي تفاصيل القصة التي تجمع بين الجمال والسلطة والسياسة والدين، وبين أسرار القصور العثمانية وروائع العمارة الإسلامية.

من هي الملكة صفية؟ الملكة صفية، المعروفة أيضًا بالسلطانة صفية، كانت واحدة من أبرز النساء في البلاط العثمانيج

وُلدت في منطقة البندقية وكانت من أصول غير عثمانية، إذ تم أسرها في سن صغيرة على يد القراصنة، ثم بيعت إلى حريم السلطان مراد الثالث. رغم أنها لم تكن ذات جمال خارق مقارنة بغيرها من الجاريات، إلا أنها تميزت بالذكاء والمرح والجاذبية، وهو ما جعل السلطان مراد يقع في حبها ويقربها منه.

أنجبت صفية للسلطان مراد الثالث ابنًا هو محمد الثالث، الذي أصبح لاحقًا سلطانًا على الدولة العثمانية. وبهذا الإنجاز، ترقت صفية إلى مقام السلطانة الأم، وأصبحت ذات نفوذ كبير في القصر.

ثانيًا: دهاء امرأة.. طريقها إلى السلطة

بعد وفاة السلطان مراد الثالث، سارعت صفية إلى تمكين ابنها محمد الثالث من اعتلاء العرش دون تأخير. وعندما لاحظ محمد غياب إخوته الثمانية عشر غير الأشقاء، كشفت له والدته أنهم “سبقوه إلى استقبال جثمان والدهم”. لكن الحقيقة كانت مروعة، إذ أمرت صفية بخنق جميع أبناء السلطان الآخرين حفاظًا على عرش ابنها، كما جرت العادة العثمانية في تصفية الإخوة لتأمين الحكم. هذا الحدث يكشف مدى نفوذ صفية وقسوتها، ويجعلها واحدة من أكثر النساء تأثيرًا في التاريخ العثماني. وقد قيل عن تلك المرحلة إن السلطان محمد الثالث كان ألعوبة في يد والدته، كما كان والده من قبل، مما دفع بعض المؤرخين إلى تكرار مقولة سليمان القانوني: “إذا أراد الله خراب مملكة، سلط عليها النساء”.

ثالثًا: مسجد الملكة صفية.. معلم ديني وعلامة معمارية بعد أن استقرت في قصرها المطل على مضيق البوسفور، بعثت الملكة صفية بأحد مماليكها إلى مصر لبناء مسجد يحمل اسمها في القاهرة، تخليدًا لذكراها وتأثيرها. يقع المسجد في حي الداودية بالدرب الأحمر، ويُعد من المساجد الفريدة التي تمزج بين الطراز العثماني وروح العمارة المملوكية.

وقد أورد الأمير علي باشا مبارك وصفًا دقيقًا لهذا المسجد في كتابه الشهير “الخطط التوفيقية”، مؤكدًا أنه يقع في جهة الحبانية، وله بابان يؤديان إلى صحن فسيح تحيط به أروقة مغطاة بقباب ضحلة على أعمدة رخامية. أما قاعة الصلاة، فتتوجها قبة مركزية ضخمة تحيط بها قباب صغيرة، وفي صدرها المحراب والمنبر الرخامي.

تفاصيل فنية ومعمارية مذهلة

يتميز المسجد بارتفاع أرضيته عن مستوى الشارع بنحو أربعة أمتار، ويصعد إليه بسلالم حجرية دائرية واسعة. له ثلاث مداخل رئيسية، أهمها الأوسط الذي تعلوه لوحة رخامية تشير إلى تاريخ إنشائه واسم الملكة صفية باعتبارها المنشئة، وذلك على يد إسماعيل أغا ناظر الوقف سنة 1019هـ (1610م).

وتقع دكة المبلغ في مواجهة المحراب، وتعلوها قبة رئيسية محمولة على أعمدة من الجرانيت، يحيط برقبتها شرفة مزينة بدرابزين خشبي. وتطل القبة على نوافذ جصية مزخرفة بالزجاج الملون، مما يمنح قاعة الصلاة إضاءة روحية آسرة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى