نادية هارون تكتب: سوريا على صفيحٍ ساخن والحل من الداخل

الفسيفساء السورية مصطلح شاع حول تنوع المكونات التي يتشكل منها المجتمع السوري، حيث يشكل المسلمون السنة الغالبية العظمى من السكان (74%)، كما توجد أقليات من المسلمين الشيعة، العلويين، الدروز، والإسماعيلية. و أيضا يوجد عدد كبير من المسيحيين (10%) من طوائف مختلفة، مثل الروم الأرثوذكس، الأرمن الأرثوذكس، والكاثوليك، إلى جانب ذلك هناك مجتمعات يهودية صغيرة، هذا التنوع كان سمة رئيسة لسوريا جغرافياً على مر العصور، فقد إستطاعت الأقليات السورية التعايش لفترات طويلة، ولم تشهد سوريا تاريخياً مذابح دموية بين تلك المكونات، بل على العكس كان التعايش بين السوريين السمة الغالبة، خاصة وأن غالبية المكونات والأقليات تتشابه في مظاهرها الثقافية والإجتماعية، وهذا التعدد والتنوع ساهم في تشكيل هوية فريدة لسوريا وجعلها نقطة التقاء للثقافات والحضارات، وأثرى النسيج الإجتماعي والثقافي، ولكنه شكَّل أيضاً أرضيَّة للتوترات والصراعات في فترات تاريخية مختلفة، حيث سَعَت كل طائفة للحفاظ على هويتها وتعزيز تقاليدها.
مع ذلك ورغم حالة الإندماج بين طوائف المجتمع السوري، ففي السنوات القليلة الماضية شهدت سوريا جغرافيا تحكُّم بعض الجماعات الموالية لجهات خارجية مثل “قسد” و”داعش” والمليشيات الإيرانية في بعض المناطق بسوريا، مما كان له تداعياته السلبية على هذا التنوع بعد سقوط نظام الأسد، وجاءت الأحداث الأخيرة في سوريا، ولا سيما الحرب الأهلية، وما قامت به الجماعات المسلحة المتطرفة “والتي أصبحت جزءًا من النظام الحاكم الحالي” بتنفيذ عمليات تطهير عرقي حقيقية، وقتل جماعي للأشخاص على أساس عرقي وديني مما شاهدناه في أحداث الساحل السوري، الذي شهد مجازر مُروِّعة أسفرَت عن تصفية آلاف المدنيين في اللاذقية، ولازالت الإنتهاكات على أسس طائفية قائمة.
أدى تفاقم التوترات الطائفية لإستغلالها من قِبل أطراف الصراع الداخلي لتحقيق أهداف سياسية، إضافة إلى التدخل الخارجي لإذكاء هذه الخلافات، تسهيلاً لتحقيق مآربهم في الإستحواذ على أجزاء من الأراضي السورية، وهو ما فعلته إسرائيل، وتلك التناحرات بين القوى الخارجية داخل الأراضي السورية بهدف فرض السيطرة ليس على النظام فقط بل على الأرض والمقدرات السورية،
وتجاهل الغرب العديد من الجرائم طالما لا تمنعه من تحقيق الأجندة العالمية وهيمنته والعيش على جسد وحطام دولاً أخري، وهو ما أدى إلى انقسام المجتمعات السورية وتعميق الفجوات بينها، وهي مقدمة لتصل سوريا الى ما وصلت إليه في السابق والتي مكَّنت من وصول البعثيين إلى السلطة وتَمكُّن أسرة الأسد من إحكام سيطرتها على المجتمع السوري بكافة مكوناته ما أدِّى إلى الثورة عليها.
مع رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا، وبتوقيعها على إتفاقية تطبيع مع الكيان الإسرائيلي، وما ستشهده من إنتعاشة إقتصادية، وعودة إلى الإندماج في المجتمع الدولي، إلا أن هذا ربما لا يضمن لها وضعاً مستقرًا فلا يزال مستقبل سوريا غامضاً، لما تواجهه من تحديات لإعادة الإعمار وتحقيق المصالحة الوطنية، وإذا كان الوضع الإقتصادي والإنهيار الإجتماعي رغم الوعود التي أطلقها النظام السوري الجديد بالحفاظ على السلم الأهلي، ومحاسبة المجرمين عن المجازر المرتكبة بحق المدنيين قد زادوا من صعوبة الوضع، إلا أن حل الأزمة السورية يجب أن يكون حلاً سياسياً شاملاً، يضمن مشاركة جميع مكونات المجتمع في السلطة، وإحترام خصوصيات كل طائفة، إلى جانب عدم السماح بأية تدخلات خارجية تعمل على تأجيج الصراعات في الداخل السوري، ومعالجة جذور الصراع الطائفي، و بناء الثقة بين تلك المكونات المتعددة والمختلفة، وتعزيز الحوار والتسامح بين الطوائف، لضمان تحقيق العدالة والمساواة.
وإذا كانت الديمقراطية، هي شعور الأفراد والجماعات بتقبل الآخر والتعايش السلمي معه لا تهميشه أو محاولة إبادته، فعلى النظام الجديد إرساء روح الإحترام المتبادل بين كافة أطياف المجتمع، وفرض قانون التعددية الثقافية والإعتراف بالتنوع الثقافي والعرقي للمجتمع السوري، وفي الوقت نفسه دعم فكرة أن التعددية الثقافية وأنها ميزة أساسية للتراث والهوية السورية التي تتشكل من السنّة، والشيعة، والدروز، والنصارى، والعلويين، فكل مكون من هذه المكونات يحمل تاريخاً وطابعاً ثقافياً خاصاً، يساهم في تشكيل الهوية السورية المتعددة، والتفاعل بين هذه المكونات يغنى الحياة الاجتماعية والسياسية.
في النهاية سوريا اليوم على صفيحٍ ساخن، وكل طرف يلعب بورقته، لكن الثمن يدفعه السوريون الذين يبحثون عن إستقرار يبدو بعيد المنال في ظل هذه التدخلات، والحل دائما يأتي من الداخل، فإذا كان الداخل قوياً ومتماسكاً، فلن يستطيع الخارج أن يفعل شيئًا.