تُعدُّ المدينة المنورة من أعظم مدن الإسلام شأنًا وأعلاها مكانة، فهي مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ودار هجرته، ومأوى أصحابه، ومسرح بداية الدعوة الإسلامية في أوج قوتها واستقرارها. وقد شهدت المدينة أعظم التحولات التاريخية التي غيرت مجرى البشرية، حين خرج منها نور الإسلام إلى العالم.
حين اشتد الأذى برسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وأُغلقت أمامه السُبل، أذن الله له بالهجرة إلى يثرب، التي سُمّيت لاحقًا بـ”المدينة المنورة”، فكانت الملاذ الآمن والحصن المنيع. وهناك، وجد النبي صلى الله عليه وسلم قلوبًا فتحت له قبل أن تفتح له أبواب البيوت، رجالاً ونساءً تقاطروا لاستقباله، يملؤهم الشوق والفرح، يتسابقون في خدمته، وتوفير كل ما يعينه على إتمام رسالته.
دعاء الرسول لأهل المدينة
من شدة ما وجد النبي من كرم أهل المدينة، وأخلاقهم العالية، ودعمهم الكامل له، دعا لهم دعاءً عظيمًا لا يزال يُردد حتى يومنا هذا. فقد قال صلى الله عليه وسلم:
“اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا، وانقل حُمّاها إلى الجُحفة.”
وفي رواية أخرى، دعا النبي صلى الله عليه وسلم: “اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة.”
لقد أصبح أهل المدينة — الأوس والخزرج — مثالاً خالدًا في الإيثار والكرم، حتى قال عنهم المولى عز وجل:
“ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة” [سورة الحشر: 9].
لقد آثروا إخوانهم من المهاجرين، وقاسموهم بيوتهم وأموالهم، بل حتى زوجاتهم في بعض الأحيان، دلالة على عمق الإيمان وصفاء النية.
كرم الأنصار وأثره في وحدة الأمة
ما فعله أهل المدينة، وتحديدًا “الأنصار”، من إكرام لرسول الله وللمهاجرين، كان أحد أعظم أسباب وحدة الصف الإسلامي. لم يشعر المهاجرون بالغربة، بل وجدوا بين أهل المدينة إخوةً وأهلًا. هذا التلاحم الاجتماعي صنع أمة قوية متماسكة قادرة على مواجهة التحديات، ومهّدت لانطلاقة الدولة الإسلامية.
وقد ظل كرم أهل المدينة سمة متوارثة جيلاً بعد جيل، حتى يومنا هذا. فالزائر للمدينة يشعر دومًا بدفء الترحيب، وبأخلاق راقية تملأ الأجواء، وبكرم لا يُقابل إلا بالشكر والعرفان. إنها مدينة النبي، وأهلها ورثوا من نوره وأخلاقه ما يجعلهم مضرب مثل في الإيمان والكرم.
المدينة المنورة ليست مجرد مكان جغرافي، بل هي حاضنة التاريخ الإسلامي، وعنوان الكرم والوفاء. وقد شرفها الله بهجرة نبيه إليها، وشرف أهلها بخدمة خاتم رسله. فكانوا كما وصفهم الله ورسوله: كرماء، أوفياء، نبلاء. ولذا، لا غرابة أن تظل المدينة المنورة في قلب كل مسلم، مهوى أفئدة، ومأرز إيمان، كما قال فيها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: