قصة: حديث الروح بقلم: تهاني عدس

قصة: حديث الروح
بقلم: تهاني عدس
في المساء، وبعد أن انتهيت من تناول العشاء مع اسرتي، أخبرني ابني أنه سيشارك في مباراة كرة مع فريقه في الصباح الباكر.
وهذا يتطلب منا إعداد اليونيفورم الخاص به، وهو يتكون من تيشرت وبنطلون وحذاء رياضي وجورب أو ما نسميه باللهجة المصرية “شراب”.
قمت سريعًا بالبحث عن كل قطعة من اليونيفورم؛ وجدتهم جميعًا عدا فردة شراب واحدة.
المشكلة تكمن في أن هذا الشراب ليس شرابًا عاديًا!
انه شرابًا رياضيًا مخصصًا للعب الكرة الأمريكية الشهيرة، وهو غالي الثمن. قد يصل سعره لأكثر من ٣٠ دولارًا.
اتذكر وانا في عمر ابني، كانت امي رحمة الله عليها تشتري لي ملابس تكفينى عام كامل بهذا المبلغ، لكن ماعلينا!!
المهم عرضت على ابني أن يرتدي شرابًا آخرًا عاديًا فرفض، وتمسك بأن نستمر في البحث عن فردة الشراب التائهة.
وبعد بحثٍ متواصل لم نعثر لها على أثر.
فجلست لبرهةٍ وانا أحدث نفسي: اين هي إذاً؟ هل هربت مثلًا؟
فى هذه اللحظة، انطلق خيالي بعيدًا ليصور لي ماذا لو فردتي الشراب أصبحا يفكران ويتصرفان كما نفكر ونتصرف نحن البشر؟
ما الذي يمكن أن تقوله فردة الشراب التائهة لتوأمها المتطابق قبل هروبها؟ فكان الحوار كالتالي:
إلى توأمي وشبيهي المتطابق:
اخبرك بأني نويت الرحيل….
ليس ذنبي أنك ارتضيت لنفسك الذل والهوان والدهس بالأقدام…..
رضيت بأن يستخدمونك لأغراضهم ثم يتركونك مهملًا مثقلًا في سلالهم وسط ملابسهم القذرة…
قبلت بأن يستبدلونك بآخر بعد أن استنفذوا طاقتك واهلكوك …
اما انا، فروحي مختلفة …روحًا حرة لا شبيه لها….. فلن أقبل بهذا بعد اليوم!!
سأصبح حرة طليقة بلا قيود…سأختفي ولن أعود…سأجعلهم يبحثون عني في كل ركن تركوني فيه مسبقًا ولم يكترثوا بأهميتي….
سأرحل للأبد..
اما انت يا عزيزي…
ستصبح يامسكين.. بلا فائدة…بلا اهمية…لا قيمة لك بدوني…
حتى إذا استبدلتني بأخرى…ستصبح انت وهي محلًا للسخرية….
فأنا ياعزيزي…لا استبدل…
لا أُعوض ولا أقارن ولا اتكرر!!!
فأجابها قائلًا:
عزيزتى….يؤسفني قرارك هذا.
إنني أقدّر المعاناة التي مررتِ بها، لكن أحب أن اوضح لكِ كيف أنظر للأمور.
تدعين انني رضيت بأن أُدهَسَ بالأقدام؟!
يبدو انكِ نسيتي ان هذه هي وظيفتي الوحيدة التى من أجلها اشتروني هم بثمنٍ غالٍ.
فإن لم اقم بوظيفتي لأحمي أقدامهم فماذا أعمل إًذًا؟! وزيراً مثلاً؟!
ويحكِ!!
تقولين انهم استخدموني وتخلوا عني بعد أن أهلكوني…
نعم، هذا صحيح!
وهذا لأنهم بشرُ مثل باقى البشر، يستخدمون بعضهم البعض، ويتخلون عن بعضهم البعض بعد أن تنتهي المصالح بينهم.
فإن كان هذا حالهم كبشر، فماذا تنتظرين منهم أن يفعلوا بي؟!
فلنحمد الله اننا لسنا بشر مثلهم!!
اتريدين الحرية؟ فلكِ ماتريدين…
لكن يا عزيزتي، الحرية لا تعني أن نفعل ما نريد في أي وقتٍ نشاء.
ليست الحرية أن نهرب من المسئوليات التي وُكلت إلينا؛ فالهروب شيمةُ الجبناء.
الحرية هي التزام واحترام؛ نصبح احرارًا عندما نقوم بواجبنا بصبر وجلد. فالحرية المسؤولة هي من خصال الأقوياء.
هى أن نواجه ونقاوم حتى ينتهي الأجل…
نعم، سينتهي أجلنا لأن لنا أعمارً مثل أعمارهم، وسيأتي يومًا ونهلك فيه مثلهم تمامًا.
اتفق معكِ أني بدونك سأصبح دون قيمة.. بلا أهمية.. ولن يُجدي استبدالك بأخرى… فماذا عنكِ انتِ؟
ستصبحين انتِ ايضًا بلا قيمة بدوني….
ستظلين هاربة…شريدة… وحيدة…
وستهلكين انتِ الأُخرى..
فنحن يا عزيزتي، نكمل بعضنا البعض…
نساند بعضنا البعض….
إن غاب أحدنا، سقط وهلك الآخر.
فأنا ايضًا، لا استبدل، لا أُعوض ولا أقارن ولا أتكرر!!!
هكذا كان الحوار الهزلي كما تخيلته وأنا شاردة، وعلى وجهي ابتسامة عريضة غير مبررة لمن هم حولي.
لكن بعدها بثوانٍ معدودة، تبدلت الابتسامة بنظرة عميقة لسقف الغرفة، وشردت مرة اخرى.
كنت أنصت في صمت لصوتٍ خافتٍ بدأ يُحدثني، لكنه كان يشوش على كل صوتٍ من حولي.
كنت اسمعه وحدي.
سمعته يقول لي: ألا يُذكركِ ذلك الحوار الهزلي الذي خيلته لكِ بشيء؟
فكرت لوهلة ثم فجأة شعرتُ وكأن مصباحًا صغيرًًا أضاء فجأة داخل عقلي مثل النور وسط مدينة مظلمة.
رأيت وكأن روحي هي من تحدثني. فأنا وهي كتوأمين.
نحن الاثنين بنفس الحجم والقوة، كل منا يريد أن يسبح في تيارٍ عكس الآخر، فإذا اختار أحدنا أن يذهب حيث أراد، تمزقنا وعانينا نحن الاثنين.
فهكذا قد تهوى أرواحنا شيئًا، لكن الحياة يكن لديها رأيًا آخر.
قد تفاجئنا بشيئء لم نخطط له.
ربما يكن واقعًا لا نريده، يأتي على غير إرادتنا، حيث لا نشتهي ولا نهوى،
يصبح تغييره ليس سهلاً، وقد يتأذى منه احبابنا.
فنصبح نحيا حياة ليست لنا، بتفاصيل لم نتمنها.
نسعى لنحقق حلمًا لم نحلم بتفاصيله.
ونصارع ظروفًا وُضِعَنا بها دون إرادتنا.
لكنها تحتاج منا قرارًا حاسمًا وقاطعًا،
فنصير حائرين للاختيار بين أمرين: إما الهروب أم الصبر للنهاية.
وبين هذا وذاك نكتشف أننا لانتبع ما تهواه ارواحنا، بل نتبع ما هو متاح لنا، حتى وإن لم يرضينا.