نادية هارون تكتب: أقولُ ما قلتُ .. مَعْذِرَةً إِلَى ربِّكُم وخشيةً من الله.

“وَإِذ قَالَتْ أُمَّةٌ منهُم لِمَ تَعِظُونَ قَومًا اللَّه مُهْلِكُهُم أو مُعَذِّبُهُم عذابًا شديدًا قالوا مَعْذِرَةً إِلَى ربِّكُم وَلَعلَّهُم يَتَّقُون” ، “وَلَا تَخْشَوْا النَّاسَ وَخُشَوا الله” في هذا الزمن، زمن الفتن حيث إستحل البعض الحرام وإبتعد عن الحلال إما جهلاً أو إرضاءًا للناس، أو حتى يسير في ركاب جماعة دون أن يدري أي منقلبٍ ينقلبون، هنا يتشكل العقل الجمعي الذى يجعل السلوكيات المعبرة عنه مهما كانت خاطئة مقبولة من الجميع،  وعلى الجانب الآخر يتشكل عقل جمعي لمجموعة من أفراد المجتمع تدين أى شخص يُظْهِر سلوكاً يخالف ما اعتادوا عليه من عادات وتقاليد وقيم، لكن بين الأمس واليوم ماذا حدث لهذا العقل الجمعي؟

منذ قرابة ثلاثين عاماً وتحديداً عام 1985 وقعت أشهر حالة إغتصاب شهدتها مصر في أواخر القرن العشرين، ولا يزل أثرها محفوراً في ذكريات كثيرين ممن عاصروا تلك القضية، لغرابتها على المجتمع المصري بقيمه وعاداته وتقاليده، لذا لاقت القضية صدى إعلامي واسع وهبَّ حينها المجتمع فشكل رأياً عاماً رافضاً تلك السلوكيَّات الغريبة، حينها لم نسمع ما نسمعه حالياً في مثل تلك الحالات، من تبريرات وإتهامات للفتاة، وأنها السبب وتستحق ما فُعِلَ بها، وهنا يمكن أن نطلق على ما كان في السابق العقل الجمعي الإيجابي الذي يهدف إلى التمسك بثوابت المجتمع بأخلاقياته والتزامه الديني، بينما الآن وقد استشرت ظاهرة التحرش الجنسي وهتك العرض والإغتصاب ليلاً ونهاراً صغاراً وكباراً، على مرأى ومسمع من البعض، وفي أي مكان حتى المساجد، ثم يخرج علينا فئة ضالَّه مُضَلِلَه تطلق تبريرات، تُدِين المجني عليهم وتحاول تبرئة الجاني، ويقابل الكثير من الناس تلك القضايا بحالة من السلبية والإعتياد، وسرعان ما يزول أثرها، هنا نقول أنه تم تشكيل العقل الجمعي تشكيلاً سلبياً،  وهو مخطط عمداً لضرب ثوابت المجتمع ومن ثَمَّ إنهياره.

وعلى الجانب السياسي، كما كان في ثروة 25 يناير والتي نجحت في تغيير النظام نتيجة توافر وتوحيد العقل الجمعي، ومشاركة جميع طبقات المجتمع المصري بكافة توجهاته، هو ذاته العقل الجمعي الواعي الذي خرج في يونيو 2013 رافضاً حكم الإخوان، ونجح أيضا في فرض قناعاته وإبعادهم عن الحكم، وتحمل الكثير من أجل الحفاظ على البلد ومقدراته، أما الآن نجد أنه يتم التسويق لشخص غير ذات حيثية لا يعلم يمينه من يساره وربما لا يستطيع حل مشاكل بيته ليكون رئيساً لبلد بحجم مصر كل أدواته أنه سُجِنَ زوراً وبهتاناً، بينما أرادَ أن يَصِلَ الى مأرَبَهُ بالتزوير فإذا زَوَّرَ لِيَصِلْ فماذا سيفعل حين يَصِلْ؟ وعلى ماذا سيحصل من وقفوا خَلْفَهُ إنْ وَصَل؟!، وآخر رئيساً لحزبٍ ما، بدلاً من أن يقدم برنامجاً إنتخابياً يجيد شرحه ويدافع عن فكرة حزبه، يبدأ في الصراخ وتوجيه إتهامات الى الحكومة والنظام وكأنه مدعي عام وليس مرشحاً محتملاً لرئاسة الجمهورية،  وفي الحالتين نجد البعض يشكل عقل جمعي يحاول إستدراج آخرين إليه، وفي المقابل لكلا الحالتين المعاديتين النظام والقيادة، في وقت تحتاج فيه مصر الى توحيد الصف لمواجهة ما يحاك لنا علنا وفي الخفاء، يسير البعض الآخر في الإتجاه المعاكس ويدعم النظام والقيادة لكنه يأبى أن يتحدث عن السلبيات ولو من منطلق الإصلاح، وهنا لن نشهد أي تغيير نتيجة إنقسام وتشتيت العقل الجمعي.

ما حدث بين الأمس واليوم  هو أن العقل الجمعى الذى كان متمسكاً وحامياً لثوابت المجتمع من أخلاق وقيم، وإلتزام ديني حقيقي وليس ظاهري، والتميز بالوطنية والزَّوْد عن أرضه وعرضه قد إختفى، وحلَّ محلَّه عقل جمعي غير واعي فتدهورت الأخلاق، وأضحى الدين مظهراً لا جوهراً، وأصبح الوطن مجرد مطبخ  تبارى الجميع في طعنه وكأنه ذبيحة، من هنا فإنه إذا أراد المصريون تحقيق نهضة في أيٍ من المجالات وعلى كافة الأصعده، فيجب تنشيط العقل الجمعي الإيجابي، عبر تكاتف كل فئات المجتمع من مفكرين وأدباء وعلماء وأساتذة الإجتماع والطب النفسي، لدراسة أسباب تشتيت العقل الجمعي للمجتمع، ويعود الإعلام الى سيرته الأولى، لضخ طاقة إيجابية تعيد للمجتمع أخلاقياته وقيمه التي تحتاجها مصر لإحداث أي تقدم ليس بفقرة “أخلاقنا الجميلة” التي لا تظهر في المحتوى الدرامي أو البرامج، بل بخطة مسبقة الدراسة لما يجب أن يّقَدَّم، وما يبث من أخبار فنانيين من شأنها الإخلال بالمجتمع .
في النهاية.. مصر عظيمة بصلاح وعظمة شعبها، يجري عليها ما يجري في العالم نهضت كما نهضت شعوب، وانتكست كما انتكسوا، خسرت معارك، وانتصرت في أخرى وهي سنة كونية، سنة الحياة وسنة التاريخ وحال كافة المجتمعات والشعوب، وهي تحتاج الآن إلى إعادة تكوين الوعي الجمعي، بحيث يكون متوازنا في نظرته لنفسه وأن تعمل كل جماعة على التخلي عن تعظيم أفكارهم، وأن يعود الناس إلى خشية ربّ الناس وليس خشية من لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً يوم نقف بين يدي الله، وهنا النُصح ولَفْت النَّظَر لضرورة البعد عن الفتن والتمسك بأصالة مجتمعنا ليس تعالياً أو إتهاماً للبعض بالغباء أو اللَّاوعي، ورغم علمي التام أن هناك من سيرى في قولي جهلاً وفي عقله نوراً وكأنه الصائب على الدوام لا يعرف الخطأ طريقاً إليه،  إلَّا أني أقولُ ما قلتُ فقط مَعْذِرَةً إِلَى ربِّكُم وخشيةً من الله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى