ديوان الأستاذ أثر .. للكاتبة: الزهرة العناق

 

الجزء الأول:

حين يكون الصمت معلما

ليس كل من وقف أمام السبورة أستاذا

وليس كل من شرح المنهج قد مس روح الطلبة

الأستاذ الحقيقي لا يحتاج إلى صوت مرتفع لكي يوقظ الوعي أو يربي أجيالا،

يكفي حضوره، وذاك النور الذي ينسل من عينيه دون أن يتكلم

الأستاذ هو الذي يعلمك كيف تفكر قبل أن تجيب.

يعلمك أن الخطأ بداية بصيرة، وأن الخوف من السؤال هو موت المعرفة.

الأستاذ هو الذي لا يراك كما أنت، بل ماذا يمكنك أن تكون لو صدقت نورك و بنيت شخصيتك.

الأستاذ الحقيقي لا يمر في حياتك مرور العابرين

بل يترك في الذاكرة رفوفا كاملة لا تبعثرها الأيام

الأستاذ هو المرشد و الموجه و المربي و المكون و الأب الثاني

كم من أستاذ غاب جسده لكن بقي أثره يشعل الدروس

و كم من كلمة قالها في هامش الحصة صارت في قلب الحياة عنوانا

الجزء الثاني:

الطباشير جسر الحياة

لم يكن الطباشير يوما مجرد مسحوق يلتصق بالسبورة

بل كان جسرا من نور، يرسم به الأستاذ طريقا للآخر بكل الألوان.

كل خط يرسمه كان خريطة، وكل دائرة كان قلبها فكرة، وكل سهم هو اتجاه نحو النهوض و النجاح.

كان حين يشرح لا يشرح فقط الدرس،

بل يحرك الهواء حوله، كأن الأبجدية تبعث من رمادها

وكأن المعنى ينتظر أن ينطقه هو ليولد.

لم يكن يكتب الدرس بل ينقشه في ذاكرة الدهر،

وكان كل طالب عنده صفحة بيضاء لا يخدشها، بل يزرعها بالرفق حتى تزهر.

ربما لم يكن يملك ثروة، ولا شهرة

لكنه امتلك كنزا ثمينا لا يراه إلا من أضاءت روحه به.

امتلك أثره، و هذا كاف ليعيش ألف عمر بعده.

كان الطباشير إذا تفكك بين أصابعه، ترك شيئا من روحه في كل ذرة تتساقط على الأرض

وكأنها تقول: هذا الغبار ليس غبارا يتطاير في السماء عبثا، بل خلاصة عمر ينبت الحياة في صمت.

الجزء الثالث:

في غياب الأستاذ، لا يغيب الأثر

إذا غاب الأستاذ عن الكرسي، اختل توازن الصباح

و غاب صوته عن الأروقة، لكن صدى حكمته بقي كأن الجدران تحفظه عن ظهر حب.

لم تعد الحصة كما كانت، صار الدفتر فارغا، و كأن الحبر يحن إلى من علم أصابعه كيف يكتب.

غاب الجسد، لكن الأسئلة التي أيقظها فينا لا تزال تحرسنا

و الإجابات التي لم ينطق بها، نسمعها كلما سكتنا بصدق

الأثر الحقيقي لا يغيب لأنه لم يكن ماديا،

كان في تلك النظرة التي منحتنا الثقة، في تلك العبارة التي أعادت لنا تشكيل يومنا، في ذلك السكوت الذي علمنا أكثر من الكلام

الأستاذ لا يقاس بعدد الشهادات التي وقعها

بل بعدد الأرواح التي مسها فلم تعد كما كانت.

في غيابه، أدركنا أن الأثر هو الحضور حين يغيب الحضور

وأن الإنسان لا يخلد بصورته، بل بما زرعه فينا دون أن يطالب بشيء.

الجزء الرابع:

أستاذ علمني أن أكون أنا

لم يطلب مني أن أقلده، ولم يعجب بالصوت الذي يشبه صوته

كان يرى في اختلافنا بذور نجاة، ويعامل التميز كما يعامل الجمال النادر، لا كما يعامل الخطأ

قال لي مرة:

“لا تكن نسخة من أحد، فالنسخ لا تعيش طويلا، وتموت قبل أن تجرب الحياة”

وحين كتبت فكرة غير مألوفة، لم يصحح لي الخطأ، بل ابتسم كأنه اكتشف بداية نجم.

كان يؤمن أن التعليم لا يعني قول “افعل كما أفعل”

بل يعني: “ابحث عنك فيك، ثم كن ذاك الذي وجدت”

غص بذاتك، و كن أنت كما تريد أنت، و ليس كما يريدك الآخر أن تكون.

علمني أن أفكر بصوتي، أن أكتب دون أن أستأذن، أن أختار طريقي و إن كان بلا لافتة.

أستاذي لم يكن صانع قوالب

بل كان كاسرها الأول، وصوتها الحر.

وإن كان من حولي يطلبون مني أن أكون مثالا

فهو من علمني أن أكون داتا، لا ظلا.

لذلك، حين أنجح، أراه واقفا في عمق الخطوة

وحين أتعثر، أسمع صوته يقول:

“هكذا تتعلم، لا تقلق، هذا أنت حين تجرؤ أن تكون”

ــ

الجزء الخامس:

حين تحولت الحصة إلى حياة

لم تكن الحصة عنده وقتا بين جرسين، بل كانت عالما صغيرا، ننسى فيه ضيق الحياة و نتسع دون أن نشعر.

كان يفتح الدفتر، لا ليقرأ، بل ليصنع جسورا بيننا وبين أنفسنا

وكان إذا شرح فكرة، جعلنا نشعر أن الكون بأكمله يستمع معنا.

لم يكن يحدثنا عن النظريات فقط، بل كان يربطها بشيء في أعماقنا، شيء لا نراه، لكنه يعرف كيف يوقظه.

علمنا كيف نرى الجمال في المعادلة، والدهشة في السؤال، والصدق في الصمت.

وكانت طريقته في الكلام تشبه صلاة

هادئة، عميقة، تنقي الروح دون أن تفرض.

كل شيء أثناء حصته كان حيا.

اللوح يتنفس، القلم يحلم، ونحن نستفيق من غفلة لم نكن نعرف أننا فيها

وبعد كل حصة، لم نكن نخرج بدرس مكتوب

بل بحياة جديدة و بطريقة مختلفة لرؤية العالم، أو لرؤية أنفسنا فيه.

ذلك هو الأستاذ الحقيقي

من يجعل من كل حصة عمرا صغيرا نعيش فيه بصدق، لا مجرد وقت نمضيه مع بعض.

الجزء السادس:

من ربى الكلمة قبل أن ينطقها

لم يكن يتحدث كثيرًا، لكن حين يتكلم، تشعر أن الكلمات جاءت إليه بعد أن تربت جيدًا.

كل كلمة تخرج من فمه كانت كأنها قد اعتذرت من القسوة، و تطهرت من الروتين، تعلمت كيف تمر إلى القلب دون أن تؤذي.

لم يكن يستعجل الكلام، بل يترك للصمت حقه،

وكأن بين الكلمة والصمت عهدا لا يخل به إلا الجاهلون

كان يختار ألفاظه كما تنتقى الجواهر، لا يرفع صوته ليفرض فكرته،، بل يلقيها بهدوء فتجلس حيث لا تصل الضوضاء.

لم يكن في درسه تكلف، ولا في منطقه هضم للحق،

بل صدق يترقرق، كأنه نبع من بئر داخلي لا يعرف الجفاف.

كان يربي الكلمة قبل أن يطلقها، يزرعها في الأرض الخصبة لفكره،

و يحرسها بصبر، ثم يرسلها حين تنضج، لا حين تطلب.

ومن شدة ما عظم المعنى، صرنا ننتظر عباراته كما ننتظر المطر

ليس لأنها نادرة، بل لأنها تحمل الحياة.

ذلك هو الأستاذ الذي لا يعلمنا فقط كيف نقول كلمة ونعبر عن إحساس، بل كيف نصمت، وكيف نختار متى تنطق الكلمة وأين تضع خطاها.

الجزء السابع:

حين صارت الإنسانية منهجا

لم يكن يكتفي بتدريس المادة، بل كان يدرسنا أنفسنا

كان يرانا قبل أن نرفع أيدينا، ويسمع وجعنا بين السطور قبل أن نعبر عنه.

كان إذا دخل الفصل، دخل معه شعور بالطمأنينة

كأننا لسنا طلابا فقط، بل أمانات بين يديه يحسن حملها.

لم يحرج يوما، ولم يرفع حاجبه سخرية من خطأ أحد.

كان يرى في الضعف بداية القوة، وفي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى