رحلة الإنسان بين الظلام والنور .. الكاتبة/ الزهرة العناق

يعد الإنسان مخلوقا متفردا بحقيقة مركبة، تسكنه نفوس متباينة في درجاتها و حالاتها، منها ما يجره إلى الهلاك ومنها ما يرفع روحه إلى معارج السمو والرضا. وقد خص الله تعالى كتابه العزيز بوصف دقيق لهذه الأنفس، موضحا مراحلها، و كيف تكون مرآة لمدى قرب الإنسان أو بعده عن خالقه، داعيا إياها إلى تزكية مستمرة نحو طريق السعادة الحقيقية.
أنواع الأنفس في القرآن الكريم:
-النفس الأمارة بالسوء: بداية الصراع الروحي
تبدأ رحلة النفس البشرية بالوقوع تحت تأثير النفس الأمارة بالسوء، تلك التي يأمرها الهوى وتسيطر عليها الشهوات والأهواء. قال الله تعالى في محكم تنزيله:
﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾
هذه الحقيقة تبرز الطبيعة الأساسية للنفس، التي تنجرف نحو المعاصي متى تركت دون هداية ورحمة من الله.
ويقول تعالى في سورة الشرح:
﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾
فالله هو الذي ألهم النفس دوافعها إلى الخير والشر، وجعل للإنسان الخيار في طريقه، فتحيا النفس بين فجور وتقوى، بين هلاك وخلاص.
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“إن في الإنسان نفسان: نفس أمارة بالسوء، ونفس مطمئنة.” (رواه البخاري ومسلم)
وفي هذا الحديث بيان أن الإنسان معرض للانحراف ولكنه في الوقت نفسه قادر على السلام والطمأنينة، ما دام يسعى و يجتهد.
-النفس اللوامة: ضمير اليقظة والندم
بعد أن يسقط الإنسان في الخطأ، يأتي دور النفس اللوامة، تلك النفس التي توجع صاحبها، و تحثه على مراجعة الحال، و تجعل منه دائم الاعتبار والمحاسبة. قال الله تعالى:
﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾
وهو قسم بالذات التي تلوم الإنسان على كل تقصير، فلا تتركه يغرق في سلبية الأخطاء.
ويقول تعالى:
﴿لَوَّامَةٌ﴾ بمعنى أنها تلوم نفسها دائمًا على التقصير و الزلل، فتبث في قلب صاحبها نداء بالرجوع والتوبة.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“آية المؤمن أن يخاف الله حيثما كان.” (رواه الترمذي)
فالخوف من الله واللوم الذاتي هما دافعان قويان للنفس إلى طلب المغفرة والسعي في سبيل الرشد.
-النفس المطمئنة: قمة السكينة والرضا
أعظم الأنفس منزلة هي النفس المطمئنة، التي استقرت في ضياء الإيمان، وحظيت برضا الله و سكينته. يقول تعالى في سورة الفجر:
﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ﴾
﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾
هذه النفس هي التي ذاقت ثمرة التوبة الحقيقية واليقين الكامل برحمة الله، فتجد في الرجوع إلى الله سكينة لا تضاهى.
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“يا أيها الناس، توبوا إلى الله و أخلصوا إليه الدين، فإني أخاف عليكم عذاب يومٍ شديد.” (رواه مسلم)
التوبة والإخلاص سبيلان للنفس أن تنعم بالطمأنينة وتبلغ الرضا الرباني.
-كيف نرتقي بأنفسنا؟
إن رحلة النفس لا تتوقف عند حد معين، بل هي مستمرة في طلب الإصلاح و التزكية. فالأنفس معرضة للإغراءات، لكنها تملك مفتاح النجاة و هو التوبة والرجوع إلى الله باستمرار. قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾
والتوبة النصوح هي التي تجدد الارتباط بالله، وتصلح العلاقة مع النفس، فتتحول من ظلمة الضلال إلى نور الهداية.
وفي الحديث الشريف قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.” (رواه الترمذي)
هذه الرحمة الإلهية تمنح النفس فرصة التجديد الدائمة، مهما تعثرت، ما دام القلب سليم و ينبض بالتوبة.
أخيرا وليس آخرا، إن الأنفس التي وصفها القرآن الكريم هي رحلتنا الحقيقية في هذه الحياة، صراع أبدي بين نزغات الهوى و نداءات الوعي، بين الفجور و التقوى، بين الغفلة و الطمأنينة. لا يليق بالإنسان أن يستكين لنفسه الأمارة بالسوء أو أن يستسلم لهفوات النفس اللوامة، بل عليه أن يكدح في سبيل تزكية روحه ليبلغ قمة النفس المطمئنة، فتتحقق له السعادة في الدنيا والآخرة، وتنال رضوان الله العظيم.
هذه الرحلة ليست سهلة، لكنها جديرة بالاستمرارية، وفيها العزة و الكرامة، النور والسكينة، و سلام النفس و راحة القلب.
-أمثلة من قصص الأنبياء في رحلة الأنفس
قصة يوسف عليه السلام: رحلة النفس بين الأمارة واللوامة والمطمئنة
قصة النبي يوسف عليه السلام من أجمل القصص التي توضح مراحل النفس المختلفة، وكيف استطاع الإنسان أن ينتصر على نزعات النفس الأمارة بالسوء ويصل إلى الطمأنينة.
النفس الأمارة بالسوء:
عندما تعرض يوسف عليه السلام لمكائد إخوته، بل وشهوة امرأة العزيز، كان معرضا لنزغ النفس الأمارة، لكنّه صمد وصبر، قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رآى برهان ربه﴾
هنا نرى كيف أن النفس الأمارة بالسوء تتعرض لاختبارات شديدة.
النفس اللوامة:
يوسف عليه السلام لم يدعن لهوى نفسه ولم يستسلم لمغرياتها، بل كان دائما يحاسبها ويحاسبها ضميره على أي ميل عن الحق. وهذا يشبه حالة النفس اللوامة التي تزرع في النفس نداء العودة للطريق المستقيم.
النفس المطمئنة:
في النهاية، و بعد كل المحن، وصل يوسف عليه السلام إلى مرحلة الطمأنينة والرضا بالله، كما قال تعالى:
﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾
أي أنه ارتقى بنفسه وبلغ درجة السكينة والرضا، رغم كل المحن.
قصة إبراهيم عليه السلام: النفس المطمئنة في مواجهة الاختبار
النبي إبراهيم عليه السلام يمثل مثالاً للنفس المطمئنة التي تخضع لله وتسلم لأمره، وهذا يظهر جليا في قصة الابتلاء عندما أمره الله بذبح ابنه إسماعيل.
النفس المطمئنة:
قال تعالى:
﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يا بُنيَّ إِنّي أَرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحكَ فَانظرْ ماذا تَرى﴾
إبراهيم و ابنه خضعا لإرادة الله بهدوء وسكينة نفس، تجلت فيها الطمأنينة والرضا، رغم شدة الابتلاء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
“لقد أُوتيَ إبراهيم حُسن الخُلقِ.” (رواه البخاري ومسلم)