توحيد اللغة… الطريق المختصر إلى النفاق الجماعي

بقلم: إيمان الحريري

اللغة التي يتحدث بها كل واحد منا هي مرآة تعكس طريقتنا الفريدة في فهم العالم؛ إنها بصمة لا تتكرر، وصوتنا الخاص الذي يصدح في فضاء الحياة.

فطالما كانت اللغة انعكاسًا للفكر، أفلا يحق لكل فكر أن يجد لغته، ولكل إنسان أن يرى الحياة بعينيه هو، لا بعيون الآخرين؟

نرى أحيانًا الدبلوماسي يتحدث كالسّياسي، والمثقف كالفنّان، والعالِم كرجال الدين، وحتى المراهق يستعير لسان الشيخ، وكأننا نتداول قوالب لغوية جاهزة كإجابات امتحانات لا يجوز الخروج عنها.

إذن هناك خطأ ما!!
حين يُنتظر من الجميع أن يردّدوا عبارات بعينها، بغض النظر عن خلفياتهم، فنسأل: لماذا لم تقل كذا؟ لماذا لم تذكر كذا؟ لماذا لا تدعو إلى كذا؟
فهذا يعني أن المطلوب منا جميعًا أن نكون نسخًا متطابقة، ويصبح المطلوب هو التشابه لا التفرّد، ويُدان كل من يختلف أو يفكّر خارج القالب.

وحينها يصبح الاختلاف غير محتمل، والتنوّع تهمة، فكأننا نسعى إلى مجتمع بنغمة واحدة، وصوت واحد، وصورة واحدة، ولون واحد. فقط أبيض أو أسود.
ليس لأن هناك قانونًا يمنع، بل لأن هناك مجتمعًا يحاكم، يُدين، ويصدر الأحكام أسرع من البرق، وأقسى من أي سلطة.
الخوف لم يعد من الرقابة الرسمية، بل من رقابة الجمهور — تلك الرقابة غير المكتوبة التي تتوقع منك أن تكون صدى لها، لا صوتًا مستقلًا.

فيصير التفكير خارج السرب ارتباكًا، بل يُعتبر أحيانًا خيانة، وحتى مجرد التساؤل عن ماهية الأشياء يُعد كفرًا.
فمن لا يُردّد ما يُراد له أن يردده، يصبح مشبوهًا، أو ناقص الوطنية، أو قليل الإيمان.
وهكذا تضيق المساحات الآمنة للتعبير، وتتحول وسائل التواصل إلى ساحات للتنابز والنزال.
ومع توافر خاصية “الحظر”، نصبح جزرًا منعزلة نسمع فيها أصواتنا فقط، نصفّق لأنفسنا، ونرمي على الآخرين الحَجر.

وعندها يصير التساؤل الذي يتملكني ويقض مضجعي:
إذا صرنا جميعًا بلون واحد، فمن سيمنح العالم ألوانه؟
من سيكتب القصيدة؟
كيف سيتنفس الفنان ويبدع؟
من سيجرؤ على أن يطرح السؤال المختلف؟
ومن سيتحمّل إجابة خارجة عن المألوف؟
أو سؤالًا حائرًا عن ماهية الثوابت؟

والنتيجة؟
فكرٌ مسجون، وتنوّعٌ محظور، و”الآخر” دائمًا منبوذ.
نغرق في نفاقٍ متزايد، وجمودٍ فكري، وتصلّبٍ في الرأي، لا يؤدي إلا إلى الفراغ… والتراجع الحضاري.


إيمان الحريري
كاتبة ومحاضرة في مجالات الصوت والأداء الإعلامي، ومؤسِّسة “Starvoice” لتدريب الموهوبين في التعليق الصوتي والبودكاست والإلقاء.تهتم بالعلاقة بين المبدع وجمهوره، وبأثر الكلمة والصوت في تشكيل الوعي الثقافي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى