محمد إبراهيم الشقيفي يكتب: الإرادة في عقر دار الإعاقة

أو بالأحرى، لو نظرنا في ظلمات بعضها فوق بعض والموج غارق في دوامة المحن، لو وجدنا أصدافًا لا تبالي شدة التيار، وشغلها الشاغل أن تحمي الأبرياء من درء الهجوم واحتمالات العفن. ومن بين أجسام تلك القواقع الحلزونية الصلبة، تنبثق أشعة تضاهي بهاء الحكمة، لؤلؤة الأمل التي تضيء سماء غبرتها أدخنة العجز أمام سيف يحارب في غفلة تحت لواء إعاقة كل أطروحة تحاول أن تغرس في الأرض القاحلة أغصان الحكمة. تلك شعار أوشك أن يبيد الحلم ويؤد الفكرة، لكن يستنفر العقل من جهالة هزل الغشاوة، وينتصر الصبر من بعد حرب خاضها الدمع باكيًا على إرث ترك موروثًا يوزن بحجم الضآلة. ثم يأتينا التكريم قاطعًا يمحو أشواك الدرب، يحتضن الشمس الدافئة، ويستشعر أهل الحل والعقد ضرورة اندماج أطياف المجتمع، يختلط بعضه ويخالط البعض، دون أن نستثني أحدًا من كوادر البشر. ينصهر فينا أصحاب الاحتياجات الخاصة عشقًا، ويذوب في بؤرتنا ذوو الهمم.
ولا يزال التحدي قائمًا، نرتقي سويا مع أحلامهم على مسرح الحياة، تظهر لؤلؤة الأمل فيصفق العالم بعد أن تأوهت جراح تندمل. لقد عصفت الريح يومًا بأحلام البعض استبعادًا عن التعايش السلمي مع ثرى الواقع، لكن سرعان ما استعاد الشراع الممزق دفته، وبزغ نجم الحلم يراود العقل ليشغل حيز التنفيذ. ظهرت كواكب تمضي عفيفة الفكر، تمسك بعزة النفس البشرية، تستمسك بإرادة عفية، من أجل أن تقول للعالم: أنا أقوى شدة من هول شمس الضحى، لكن أحلامي المفقودة استعادت وعيها من جديد.
لم تعد الإعاقة تمثل وجهة للعجز ولا قبلة نحو الضعف، بل حاربت هذه الفئة تثاقل الفكر الأيديولوجي، كي تتحرر عبيد المنطق الجامد ليصبح قابلاً للتجديد. ظهرت إحدى قلاع التحدي ذات البنيان الصدفي اللامع، بنت محافظة الإسكندرية، السيدة/ منى منصور السيد، الحاصلة على ليسانس الآداب قسم التاريخ والآثار المصرية، رئيسة قطاع ذوي الهمم في أكاديمية “فرانكو تياترو”.
المرأة الأربعينية التي ذبلت حركتها في مهدها اليافع بين الزهور، لكن شغف التصميم الداخلي على السير فوق الرمال البنفسجية جعلها تقاوم العجز الحركي، لتجد نفسها تتلون مثل الفراشة، معبرة عن مشاعرها بطريقة آمنة، عبر الرسم والتلوين. التحقت في سن السادسة بمركز تأهيل لذوي الاحتياجات الخاصة، ودربت على المهارات اليدوية وفن الرسم.
مما لا شك فيه أن ذوي الاحتياجات الخاصة يهيمون شوقًا إلى درب النجاح والتعلم لتكن شمعة البداية، تحمل ضوء الأمان الذي يستعاض به عن عنصر الفقد اللاإرادي. استوجب الأمر أن نعتني بالمواهب لتعزيز الحس الفني لدى الطفل، كما الحال بالرسم والألوان، والتي من خلالها طرح الثمر بعد استكشاف كيفية التعامل مع تلك القدرات البشرية. وهذا ما أثار فضولي مع ابنة عروس البحر الأبيض المتوسط، والتي نجحت في استغلال قدرتها بعد الاستيقاظ من غفلة الزج بالمهارات في بئر عميق.
شغفت المنسق الإعلامي للتحالف الدولي للمصريين في السعودية والخليج، ومساعد رئيس الاتحاد المصري للمجالس المحلية، بحب العلم، وفن التطريز، والموسيقى الكلاسيكية والعربية والشعر. كتبت أول ملحمة وطنية عن القدس وهي لم تتعدى العاشرة من عمرها، لكن رغمًا عما تعرضت له من صدمات تعاقبت عليها بتواتر مهلك، وتعرضها لحادث جسيم عام 2007، أدى إلى شلل نصفي في الجزء الأيسر، استمر فترة غير وجيزة، لكن إرادة المرأة في دروب الحصى الشائك جعلتها تقبل التحدي فوق إعصار الزوابع. إنها هدنة الاستراحة لا أكثر، ثم العودة إلى العمل عام 2010 بجدارة، لتشارك في مركز تطوير التعليم في إعداد المادة العلمية للكتاب المدرسي، مستثمرة أساليب التكنولوجيا الحديثة لدرايتها بأن الحاسوب الآلي هو آلة العصر الحديث.
ينقصنا استراتيجيات التعامل مع عدم الاشتباك وفض تفاهة العراك، الأمر بكل شفافية يحتاج إلى التزود باللين وتقديم يد المساعدة، لنكن جميعًا نموذجًا ناجحًا يترفع وهو يتعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة عن لغة الشفقة والتحديق، والسؤال بعفوية الخجل قبل تقديم يد العون والمساعدة، والتعامل بفكر شخصي وكأننا ننظر في مرآة نحسم فيها القول ونحسن أخلاقنا مع الغير.
نحن أمام هالة كانت تكمن في جوف قوقعة بحرية، لكنها تحررت من كل قيد وانخرطت في طريق العمل التطوعي لذوي الاحتياجات الخاصة، خاصةً وأنها كانت تفكر قبل أن تتكلم، تتشكل مثل الصلصال من الطمي المعجون بطهارة القلب، كانت تجلس في نفس مستوى قعيد الفراش باحتراف، مطبقة بذلك النهج السليم والنصائح العامة في التعامل مع ذوي الإعاقة، وكأنها وهبت نفسها لقرنائها من ملائكة الرحمة، لتتفادى معهم العوائق والصعوبات.
لقد فازت بالمركز الأول نتيجة بحث قدم عن دور التكنولوجيا في تحسين تعليم ذوي الاحتياجات الخاصة بالمؤتمر لحقوق الإنسان وذوي الهمم. نحن ندرك قيمة النقطة الأولى وكيفية التعامل مع شرارة الانطلاق، خاصةً وأن من يتعايش مع الواقع هو كفؤ لتقديم أفضل ما لديه من عطاء.
السيدة/ منى منصور، رئيس مجلس إدارة أكاديمية منى المنصور للفنون والثقافة والسلام، تمشي على رمال التصور دون توهم، على أنغام الموسيقى الهادئة، تغلبت بالعلم والإرادة في عقر دار الإعاقة على التحدي رغم انف عقباته القاسية. حصلت على دبلومة التسوق الإلكتروني من مبادرة قدوة تك، التابعة لوزارة الاتصالات والصناعة، ثم درست المستشارة الإعلامية لأكثر من مؤسسة، كيفية التسويق بالمحتوى، استخدمت بحرفية رائعة مجموعة من الاستراتيجيات الحديثة عبر القنوات المدفوعة للترويج عبر بوابة التسويق الإلكتروني.
جمعت بين سطور الإبداع كافة، وشكلت خبرتها خاصة في مجال التنمية المستدامة جملًا مفيدة ذات معاني عظيمة، خاصة بعد مشاركتها البناءة في موريتانيا في مؤتمر تحت شعار “من التدريب إلى التمكين”. قدمت العديد من أوجه التعاون على عدة محاور، منها دورها كمحررة فنية بجريدة “دايلي برس مصر” ومشرفة على صفحة “ومضات فنية”. أدت عملها باحترافية الصحفية ذات الصبغة الذهبية، لتكن سرًا يصل الخفاء بحلقات العلن.