نجيب الريحاني… الساخر الذي توحّد مع الوجدان المصري

بقلم: إيمان الحريري
في ذكرى رحيل نجيب الريحاني، لا نتذكر مجرد فنان أضحك الناس، بل نستحضر روحًا صادقة تجسّدت فيها ملامح الإنسان المصري البسيط، الذي يعرف الوجع، ويعيش الضيق، لكنه يختار أن يبتسم في وجه الحياة.
فلم تكن كوميديا الريحاني مجرد وسيلة للضحك، بل كانت مرآةً للناس، ومتنفّسًا لأوجاعهم، وأسلوبًا في الحياة .
عاش نجيب الريحاني الحياة بكل ما فيها من مرارة، لكنه واجهها مبتسمًا. صنع من الألم مدادًا للسخرية، ومن الشكوى مادةً للفكاهة، تدخل القلب بلا استئذان، فيمتزج فيها الضحك بالحزن، وينتج عن هذا الخليط شعور نادر اسمه: الرِّضا.
وذلك الرضا هو العنصر الأساسي في وجدان المصريين… أولئك الذين يحملون جوهر الانتماء والبساطة، لا القشور والمظاهر. المصريون بحق، لا “الفالصو”.
كان فنانًا خُلِّد بإخلاصه لفنه، وبإحساسه الذي لم ولن يتكرر. حتى ملابسات وفاته، حوّلها إلى كلمات تقطر حزنًا وسخرية في آنٍ واحد. ولهذا، لامست موهبته قلوب المصريين جميعًا، لأنه كان واحدًا منهم، يشبههم ويعبّر عنهم. في مرضه الأخير، كتب رثاءً لنفسه، كأنّه مشهد وداع صاغه بقلمه، قال فيه:
> “مات نجيب.
مات الرجل الذي اشتكى منه الناس كما اشتكوا من الألم والصداع والضرائب والمواصلات…
مات من كان يُضحك الناس…
مات تاركًا وراءه فراغًا لا يُملأ بسهولة.
مات وقد ترك إرثًا من الضحك والدموع…
مات بعد أن أضحك الملايين، ولم يضحك يومًا كما يضحك الناس.”
كلمات حزينة، لكنها لا تخلو من تلك الروح التي ظل يواجه بها الحياة: سخرية ممزوجة بحكمة، وضحك يحمل في طيّاته الفهم العميق للوجع الإنساني.ولهذا، لم يكن نجيب الريحاني ممثلًا للمصريين… بل كان تجسيدا للمصري نفسه.
لم يكن انتماء الريحاني لمصر مسألة أوراق أو نسب، فقد وُلد في حي باب الشعرية لأبٍ عراقي كلداني وأمٍ مصرية قبطية، لكن روحه كانت مصرية خالصة. لم يشعر يومًا أنه غريب، بل ذاب في الناس، واختار أن يكون صوتهم وضحكتهم، وهمّهم اليومي أيضًا.
لقد كان بحق “المضحك المبكي”؛ يضحكك من أعماقك، ثم يترك فيك شيئًا من الشجن لا تدري من أين أتى، وكأنك ضحكت على نفسك، على حياتك، على الواقع، ثم أدركت في النهاية أن تلك الضحكة ما هي إلا دمعة مؤجّلة.
ولهذا بقي خالدًا… لا في الصور والعناوين فقط، بل في ذاكرة من ضحكوا وبكوا معه.
رحم الله نجيب الفن، نجيب الصدق، نجيب الإنسان.
وعاش المسرح… لأنه الأصل.
وعاشت مصر… بالرضا، والسخرية، والضحك الذي يشبه البكاء.
—
إيمان الحريري
كاتبة ومحاضرة في مجالات الصوت والأداء الإعلامي، ومؤسِّسة “Starvoice” لتدريب الموهوبين في التعليق الصوتي، والبودكاست، والإلقاء. تهتم بالعلاقة بين المبدع وجمهوره، وبأثر الكلمة والصوت في تشكيل الوعي الثقافي.