الهانم بقلم: تهاني عدس

الهانم

بقلم: تهاني عدس

تأتي الأرزاق في الدنيا بأشكال مختلفة، ويرزق الله منها من يشاء مايشاء ويمنع منها عمن يشاء ما يشاء، لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى.

مثلًا جدتي أم أبي، حسب مقاييس الجمال في الريف المصري والذي يحدد جمال المرأة هو مدى بياض البشرة والعيون الملونة والشعر الأصفر الطويل. طبقًا لهذه المقاييس، أنا لا أبالغ إذا وصفت جدتي انها كانت جميلة الجميلات.

لقد رُزقت بأربعة أبناء وابنة واحدة ثم توفى زوجها وهي مازالت شابة، لكنها لم تتزوج بعد وفاته. لأن أبنائها أصبحوا رجالًا، منهم اثنين كانا يعملان بالتجارة، فلم تضطر هي للخروج للعمل.

عاشت مدللة في عيشة مريحة مرفهة بعد ما انتقلت للعيش معنا. كُلنا وعلى رأسنا أمي وأبي، جميعنا كنا في خدمتها؛ وكان أبي يجيب كل طلباتها على الفور دون نقاش.

كانت دائمًا ما تفخر بحسبها ونسبها وبجمالها. كانت تعيب على بشرتي القمحية وتتعجب، لماذا لم أولد شقراء مثلها، وكانت تلوم أمي على ذلك.

لما كبرت، واكتشفت أنى أقرب في لون البشرة والملامح لأبي وهو لم يكن أشقرًا مثلها، لم أملك إلا سوى ان أتذكر ذلك واضحك.

فهى كانت تتمتع بحسِ عالٍ من الفكاهة وقدرة فائقة على التحدث، قد تصل إلى حد التسلط.عاشت طويلًا وهي تتمتع بصحة تامة حتى وفاتها بعد أن أتمت المئة عام.

في المقابل، جدتي لأمي، الحاجة هانم؛ هي أيضًا توفى عنها زوجها وهي شابة. ترك لها ابنتين صغيرتين، تكبرهما أمي. كان جدي يعمل بالزراعة؛ وترك لهن قطعة أرض زراعية وبيتا صغيرًا يأويهن.

هي أيضًا رفضت الزواج؛ فالمرأة عندنا في الريف تتعرض لظلمٍ بائن إذا شاء القدر وتوفى الزوج وترك لها أطفالًا.

فالرجال عندنا يتزوجون الأرامل أو المطلقات لخدمتهم وخدمة أبنائهم ويمتنعون عن رعاية أبناء زوجاتهم من رجال آخرين ويرفضون الإنفاق عليهم حتى ولو كانوا ميسورين الحال.

ربما هذا هو نفس الأمر بالنسبة للمدن، لكني أدعي أن الظروف في المجتمع الريفي أكثر حِدة وأشد قسوة من المجتمع المدني.

كانت جدتي الحاجة هانم شخصية قوية وجادة وصارمة، لم تنصع لهذه التقاليد المجحفة، ورفضت التخلي عن ابنتيها من اجل رجل.

فضلت أن تسعى لكسب الرزق الحلال لتربي ابنتيها. اتقنت أمور الفلاحة، وقامت بأعمالها الشاقة، حتى توفر لهن حياة كريمة، فغمرهن الله بستره ولم تضطر هي إلى أن تطلب مساعدة من أحد.

أتذكر انها كانت دومًا ترتدي ملابس سوداء اللون، وتفطي رأسها بغطاء يشبه العِمة التي كان يرتديها الرجال في ذلك الوقت. هي لم ترغب في التشبه بهم، لكنها كانت تتعمد ألا ترتدي ملابس تظهر أنوثتها حتى لايطمع فيها الرجال، وهي تعمل جنبا إلى جنب بالحقل.

عاشت حياة مليئة بالجهد والعناء والسعي الدؤوب وهي تقوم على رعاية ابنتيها حتى تزوجا وتركا المنزل وانتقلت كل منهما إلى بيت زوجها.

أما جدتي، فقضت بقية حياتها وحيدة ولم يمنحها الأجل سوى ستين عامًا من العمر.

الحاجة هانم مثل نساء كثيرات، يضحين بأنوثتهن ويقمن بدور الأب والأم بنفس الوقت. يعشن وسط مجتمع لايرحم وظروف اقتصادية واجتماعية قاسية؛ بعض الرجال لا يقدرون عليها في بعض الأحيان.

لكنهن لا يستسلمن، بل يقاومن تلك الظروف من أجل توفير حياة كريمة لأبنائهن.

البعض منهن مثل جدتي أم أبي، يعوضهن الله بامورٍ كثيرة في الدنيا مثل الجمال والمال والصحة الجيدة والعمر الطويل والحياة المريحة واولاد قادرون على رعايتهن ماديًا ومعنويًا وصحيًا.

والبعض الآخر مثل الحاجة هانم، لا تتوفر لهن كل هذه الأمور ولا يجدن إلا خيار التضحية والشقاء والوحدة حتى آخر لحظة في حياتهنّ.

ربما رزقهن يتجلى في امورِ خفية يعلمها الله وحده سبحانه. ربما رزقهن يكمن في الصبر والجلد ويريد الله لهن أجرًا أعظم شأنًا من الأمور المادية الملموسة.

في النهاية، أحب ان أشير إلى مفهوم لقب الهانم الذي نمنحه للنساء المرفهات والمدللات في المجتمع. يرجع الى نوعية الحياة التي تتوفر بها كل أساليب الراحة والرفاهية لهن كي يطلق عليهن هذا اللقب.

انما في رأيي، من تستحق لقب الهانم، هي الحاجة هانم وأمثالها من النساء اللاتي يعانين في هذه الظروف الصعبة، من يضحين من أجل أبنائهن.

فهن من يستحقن كل الاحترام والتقدير.

هن هوانم المجتمع الحقيقيين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى