صموئيل العشاي يكتب: ضاعت فلوسك يا عوّاد… الخليج موّل الحرب على إيران وترامب فضحهم علنًا

بهذه الكلمات الصادمة، خرج الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في تصريح أذاعته قناة “إكسترا نيوز”، ليضع نهاية درامية لحكاية طويلة من التواطؤ والمساومات والصفقات الغامضة. كلمات قصيرة، لكنها تكفي لإعادة رسم خريطة الدم والمال في واحدة من أكثر حروب الشرق الأوسط عبثية وتعقيدًا في العقود الأخيرة: الحرب الإسرائيلية – الإيرانية، التي تورط فيها الجميع، وخرج منها الجميع بخسائر… إلا تجّار السلاح.
كنت في أحد اللقاءات الخاصة، ودار الحديث – كالمعتاد – عن الحرب ونتائجها، فسألني أحد الأصدقاء: “ما رأيك؟ من وراء هذه الحرب المجنونة؟”. أجبته بكل هدوء: “أنا عندي فيديو مسجّل للأمير محمد بن سلمان يتكلم عن خطورة وصول إيران للسلاح النووي في 2025”. هذا الفيديو وحده يمكن أن يشرح لماذا تحوّلت إيران إلى هاجس يؤرق مضاجع العواصم الخليجية، ولماذا بدأت مرحلة “الصرف المفتوح” على معركة لم تُخض بالسلاح الخليجي، بل بالأموال فقط.
لكن خلف هذا الهوس النووي، هناك ما هو أهم وأكثر خطورة. يعلم بن سلمان، ويعلم كل من يحكم في الخليج، أن الخطر الإيراني ليس في مفاعلات نطنز أو فوردو، بل في البيوت والأحياء والمجالس الخليجية التي أصبحت شيعية العقيدة والولاء. أكثر من 30٪ من سكان السعودية – حسب التقديرات غير المُعلنة رسميًا – أصبحوا يدينون بالولاء للمرشد الإيراني علي خامنئي. تلك ليست مجرد أرقام، بل تهديدات داخلية صامتة، تنتظر لحظة الصفر لتتحرك.
لم يكن ممكنًا تجاهل هذا الواقع. فإيران لم تعد على الحدود فقط، بل اخترقت العمق الخليجي: دخلت الأسواق، تسللت إلى الإعلام، تجذرت في المجتمع، وفرضت كلمتها حتى على النخب. وكان لا بد من رد. لكن كيف؟ بالخطب؟ أم بالبيانات؟ أم بمصارحة الشعوب بالحقيقة؟ لا، قرروا أن يشتروا المعركة نقدًا.
هكذا لجأ حكّام الخليج إلى ترامب. رجل المال والصفقات والمواقف المشتراة بالدولار. دعوه إلى الطاولة، وطلبوا منه شن حرب محدودة ضد إيران تكسر مشروعها وتعيد التوازن. فوافق، لكنه لم يأتِ مجانًا. طلب الرقم الأكبر، وابتلعوه دون تردد: 5 تريليون دولار. نُقلت الأموال، وبدأ التنفيذ.
ما جرى بعد ذلك لم يكن سوى عرض حيّ لاستراتيجية “نحارب بالغير… ونكسب بالوهم”. الطائرات الإسرائيلية بدأت بقصف مواقع الحرس الثوري. قادة كبار اغتيلوا، وجرى تحريك خلايا المعارضة الإيرانية لتفجير الداخل. بدا المشهد كأن هناك نصرًا يلوح في الأفق. حتى جاء القصف المرتقب: استهداف المفاعلات النووية.
لكن الضربة، التي رُوّج لها بوصفها “نهاية المشروع النووي الإيراني”، جاءت محدودة، أقرب إلى رسالة منها إلى ضربة قاصمة. إيران تضررت نعم، لكنها لم تُكسر. استمرت في بناء قدراتها، واستثمرت الضربة سياسيًا لتكثيف خطاب المظلومية، واكتسبت مزيدًا من التعاطف الإقليمي والدولي. والنتيجة؟ “ضربناهم وخليناهم أقوى”، كما يقول المثل.
مع هدوء النيران، ارتبك الموقف الخليجي. بدأنا نسمع نغمة جديدة: “نحن لم نشارك”، “نحن مع وحدة إيران”، “نرفض المساس بسيادة أي دولة”. عبارات غريبة، تصدر عن من فتحوا الخزائن وأشعلوا الفتيل. بدا الموقف كما لو أن أحدهم أشعل الحريق ثم اتصل بالإطفاء نافيًا التهمة.
لكن ترامب لا يُجيد المجاملات، ولا يُجيد حفظ الأسرار، خاصة إذا كان يمكنه استخدامها لصالحه. فخرج فجأة ليقول الحقيقة بصراحته المبتذلة المعروفة: “أخذنا من الخليج وصرفنا في إيران، وعلى العرب إعادة إعمار إسرائيل”. لا مواربة، لا ديبلوماسية، لا تكتيك. قالها وانتهى الأمر.
هنا انتهى الصمت. العالم بأكمله فهم اللعبة. فهم أن الحرب لم تكن من أجل الأمن الإقليمي، ولا من أجل حماية الخليج، ولا حتى من أجل إسقاط المشروع الإيراني، بل كانت صفقة خالصة. الخليج دفع، أمريكا نفّذت، إسرائيل استفادت… والعرب؟ العرب سيدفعون مجددًا… لكن هذه المرة من أجل الترميم.
ما فعله ترامب لم يكن مجرد كشف للحقائق، بل فضح. فضيحة مكتملة الأركان، ليست سياسية فقط، بل أخلاقية ومجتمعية. كيف يشعر المواطن العربي وهو يسمع أن تريليونات من أموال النفط صُرفت في حرب لم تنتهِ، بينما لا يجد مستشفى يُعالَج فيه؟ كيف يبرر الخليجي لذاته أن بلاده شاركت في تمويل قصف ثم أنكرت، ثم ساعدت في الترميم؟ من الذي ربح غير مصانع السلاح وجيوب الوسطاء؟
والخسارة لم تكن مادية فقط. الخليج خسر هيبته، خسر صورته أمام الشعوب، خسر صوته في الإقليم. تحوّل من صانع قرار إلى بنك يُموّل، ثم يُعاقب على ما دفع.
وهنا لم تعد عبارة “ضاعت فلوسك يا عواد” مجرد سخرية دارجة، بل صارت عنوانًا لحالة سياسية واقتصادية وأخلاقية كاملة. عواصم الخليج دفعت ثمن الحرب، ثم دفعت ثمن الإنكار، والآن تدفع ثمن انكشافها أمام شعوبها، والعالم.
وهكذا تكتب المنطقة فصلًا جديدًا من الحماقات المكلفة، والصفقات الخاسرة، حيث الأمن يُشترى بالتمنيات، والكرامة تُباع بتوقيع، والسيادة تُستبدل بمذكرة تفاهم على طاولة أمريكية.