ابتهال عبد الوهاب تكتب: أسئلة الطفولة.. وهاوية النضج

محمد دياب

في البدء، كان الطفل أجمل فيلسوف عرفته الخليقة.
ينظر إلى العالم كأنه يخلق أمام عينيه كل صباح،
كأنما يولد السؤال الحقيقي مع أول دهشة
إنه لا يتوقف عن التحديق…
في المطر، في الحجر، في ظل الضوء على الجدران،
وفي كل ما يراه الكبير عاديا
يكتشف الطفل كونا سريا لا يزال ينبض بالدهشه
حين يفتح الطفل عينيه على العالم، لا يطلب دليلا بل يسأل: لماذا؟
ولعلها الكلمة التي صنعت الفلسفة قبل أن تكتب،
وخلقت من الحيرة مجدا، ومن الجهل حافزا للمعرفة.
أسئلة الصغار ليست ساذجة، بل بريئة من زيف المنطق الذي نطعم به عقولنا حين نكبر
الأطفال يسألون:
لماذا نموت؟
أين كان الله قبل أن يخلق العالم؟
لماذا لا نرى الروح؟
هل يمكن أن أعود طفلا بعد أن أكبر؟
لماذا تطير الطيور؟
كيف يعرف النمل طريقه؟
هل تموت الأحلام حين نستيقظ؟
وفي كل سؤال من هذه الأسئلة، تنبض هاوية الحقيقة التي تهربنا منها،
نحن من بلغنا سن النضج، أو قل: سن الترويض العقلي.
نصفد أسئلتنا في أقفاص المفاهيم الجاهزة،
ونبدل الدهشة القديمة بإجابات مألوفة
نلوذ بتعريفات مبتورة نصوغها بما يرضي الجموع، لا بما يرضي الحيرة
فنصير كبارا بلا أسئلة، نعيش في الظل البارد لليقين،
نخشى أن تهب ريح التساؤل، فتسقط أقنعتنا
تخلينا عن لهفة السؤال الأولى، واستبدلناها بإجابات جاهزة تصلح للعيش، لا للفهم
كل ما أفسدته الأعوام فينا، ابتدأ حين أطفئت في داخلنا شعلة الدهشة
حين كففنا عن السؤال، لا لأننا وجدنا الجواب، بل لأننا اعتدنا العتمة
نحن حين نكبر، نتعلم شيئا فادحا اسمه الاعتياد
نمر بالوردة فلا نشمها، ننظر إلى البحر ولا يحرك فينا ساكنا
نحن الكبار
أفقدنا النضج تلك القدرة الساحرة على الانبهار و خنقنا الطفل الذي كان يسأل فينا.. وأجلسناه على مقاعد الخوف..
علمناه أن لا يسأل، لأن السؤال جريمة.
أن لا يعترض، لأن الاعتراض وقاحة
أن لا يحلم، لأن الحلم ترف
صرنا نختار من الأسئلة ما لا يوجعنا، ونتهرب من تلك التي تهز يقيننا، نحيا بين إجابات هشة ونتظاهر أن الفهم قد اكتمل
لكن، الحقيقة تظل تربت على أكتاف الأطفال، تبتسم لهم حين يخطئون في التعبير، وتتوارى عنا، نحن المتقنين لزيف البلاغة
الطفل، لا يخاف أن يهدم كونك بكلمة.
لا يرى في السؤال تهديدا، بل حياة
كل شيء عنده قابل للانقلاب. ولا قداسة لما لا يفهم،
ولا احتراما لما لا يحب
لقد أفسدنا ما أسميناه النضوج. لقد جعلناه مرادفا للسكوت وللاتزان المصطنع..لقد أصبحنا خبراء في القتل البطيء للشغف
صرنا نختار من الأسئلة ما يناسب مقاس عقولنا المتعبة،
ونطرد ما لا نطيق احتماله، أو لا نجرؤ على مجابهته.
لكن، أليس الفيلسوف طفلا رفض أن يكبر على طريقة الآخرين؟
أليس سقراط، في عمقه، سوى رجل يسأل العالم كما يسأله طفل؟
وهل كانت الفلسفة إلا تلك العودة المتأخرة إلى براءة السؤال؟
لكن الطفل لا يزال هناك، يسكننا في زاويةٍ خفية من أرواحنا
يطرق بابنا كلما فاجأتنا دمعة بلا سبب، أو ارتجف القلب أمام موقف ما
كل ما نحتاجه هو أن نعيد تعلم الدهشة،
أن نجلس القرفصاء مع الطفل فينا
أن نترك له الكلمة الأولى… وربما الأخيرة.
ففي أسئلته الخجولة،
تكمن الحقيقة التي نسينا كيف ننظر إليها.
لتعلموا ان في زاوية القلب المنسي يسكن فيلسوف صغير
طفل لا يزال يسأل: لماذا؟
هو لا يهتم إلا باللحظة الآنية.. لا يحزنه ماضٍ لم يفهمه
ولا يؤرقه غد لم يره بعد.
يحمل الحياة كلها على محمل اللعب
ربما آن أوان العودة إلى ذلك الطفل،. إلى الفيلسوف الوحيد الذي لم يخن الدهشة، ولم يخف من اللعب
ولم يعرف يوما أن الحياة شيء غير السؤال
فلنتعلم من الطفل أن نسير في العالم كما لو كنا نراه للمرة الأولى
أن نستعيد دهشتنا من قبضة يد، من دفء شمس، من ارتعاشة فكرة.
فلعل العودة إلى الطفولة…ليست رجوعا إلى الوراء
بل اندفاعا حقيقيا إلى الأمام،
حيث يولد الفيلسوف من رحم الدهشة،. ويبعث الشغف من تحت ركام الاعتياد..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى