ابتهال عبد الوهاب تكتب : الصداقة بوصفها موقفا فلسفيا

محمد دياب
في عالم يزداد صخبا وازدحاما، وبين بشر يتكاثرون عدديا ويقلون معنويا، تبرز الصداقة الحقيقية كحدث نادر كاستثناءٍ لا يتكرر كثيرا في مجرى العمر. لا نتحدث هنا عن المعارف ولا عن أولئك الذين يحيطون بك لأنك في الضوء أو لأنك لم تخذل توقعاتهم بعد. بل عن ذاك النوع من الصداقة الذي يلامس جوهر الكينونة، ويمنحك مساحة أن تكون دون تنقيح أو مراجعة
وسط هذا الزيف الذي نعيشه كله، لا يبقى لنا إلا الصداقة الحقيقية. تلك التي لا تباع ولا تشترى، التي لا تحتاج إلى مواعيد، ولا إلى تنسيقات مسبقة، بل يكفي أن نكون معا. يكفي أن نأت إلى اللقاء كما نحن، بقلوبنا المثقوبة، وهمومنا التي لا نبوح بها، وضحكاتنا التي ننتزعها من وجع الأيام
الصداقة، من زاوية فلسفية هي الضمانة الأخيرة ضد الوحده و ضد الغربه و ضد التحول إلى مجرد ترس في آلة.
هي الوجه الإنساني الوحيد الذي لا تطاله البيروقراطيات، ولا تلوثه المؤسسات، ولا تفرغه السوق من روحه. هي العلاقة الوحيدة التي لا تستند إلى نفع، ولا تقوم على تبادل مصلحة، بل تنبثق من انكشاف روحي عار من صدق بلا مقابل. الصديق الحقيقي لا يشبه الجمهور، لا يصفق حين تنجح فقط، ولا يختفي حين تفشل. إنه امتدادك الحر، وجهك الآخر الذي لا تحمله المرايا، بل تحمله الحياة.
إن الصداقة الحقيقية لا تحدث بين شخصين بقدر ما تحدث بين ذاتين. بين كينونتين قررتا أن تسيران معا ولو اختلفتا
أن تصمتا معا حين يكثر الجميع من الكلام، أن تحتفيا باللحظة العابرة وكأنها خلود مؤقت، أن تفهما أن اللقاء لا يقاس بالوقت، بل بالتجاوب الداخلي الذي يحدث حين تلتقي الأرواح لا الأجساد فقط
الفيلسوف الألماني شوبنهاور رأى أن الحياة تتأرجح بين الألم والملل ولكن الصداقة إن وجدت قد تكون تلك الومضة التي تخفف من ثقل هذا التأرجح. والصديق، في هذه الرؤية، ليس ملاذا اجتماعيا بل ضرورة وجودية تتيح لك أن تكون مع الآخر دون أن تفقد ذاتك
وفي عالم يتسارع نحو الزيف، يصبح وجود الصديق مقاومة ضد التفاهة، وضمانة أخيرة لبقاء الإنسان إنسانا. فلا تفرط في من يشبهك، لا من حيث الذوق أو الفكر أو الجنس أو الدين، بل من حيث العمق، من حيث الصدق، من حيث القدرة على البقاء حيا معك، لا بجسد عابر بل بروح تشبه الطريق التي اخترتها لنفسك.
في النهاية، قد لا نملك كثيرا في هذا العالم المتآكل، لكننا إذا امتلكنا صديقا واحدا حقيقيا، امتلكنا وجها نعود إليه حين يفقد كل شيء وجهه
الصداقة ليست في الصورة التي نلتقطها سويا، بل في فنجان قهوة نشربه ذات مساء عابر، وفي مزحة نضحك لها دون أن نطلب تفسيرا، وفي عناقٍ صامت يقول: أنا هنا، رغم كل شيء.
الصديق هو ذاك الذي لا ينسحب حين تبهت صورتك، ولا يغيب حين تفقد بريقك
فلنحرص على هؤلاء الذين يشبهوننا… لا لشيء، سوى لأنه في عالم يزداد اصطناعا، تظل العلاقة الصادقة آخر ما نملك من بشرية
و في عالم ينهار فيه المعنى كل يوم، تصبح الصداقة الحقيقية آخر معقل للصدق وآخر شكل من أشكال الحب الخالي من التملك، وآخر حوار حقيقي لا يحتاج إلى لغة
فلنحرص على هؤلاء الذين لا يتركونك حين تخطئ، ولا يغادرونك حين تبهت، بل يمنحونك حق السقوط ونعمة البقاء وشرف أن تكون إنسانا معهم لا أكثر ولا أقل