الإدمان الإلكتروني .. بقلم/ الزهرة العناق

في زوايا العصر الرقمي، حيث تتوه الأرواح خلف الشاشات المتوهجة، يولد نوع جديد من القيود؛ قيد يتجلى في فراغ القلوب و ثقل العزلة. لم تعد السلاسل من حديد، بل من إشعاعات تقتات من وقت الإنسان ووعيه، حتى يصبح الحضور الجسدي مجرد ظل، و اليقظة العقلية صدى بعيد. إننا لا نتحدث هنا عن ترف من الإدمان، بل عن انزلاق هادئ نحو فقدان الذات، يغلفه الوهم بالاتصال وهو في جوهره انقطاع عن الحياة الحقيقية. فما بين نقرة و تمرير، تسرق لحظاتنا، وتنسى أعمارنا، ليبدأ صراع داخلي يحدث صدى عميقا في وجداننا.
الإدمان الإلكتروني ليس بعادة سيئة، ولكنه انزلاق غير محسوس في متاهات الاستخدام المفرط، حيث يتحول هذا الوسيط الرقمي من أداة مساعدة إلى سيد يتحكم في الوقت و المشاعر و العلاقات. هو ليس مجرد ترف أو تضييع للوقت، بل حالة قد تنزع من الإنسان قدرته على التركيز، وتضعف تواصله الواقعي، و تولد العزلة و الانفصال. إنه شعور مزيف بالاكتفاء، و سكينة وهمية تخفي خلفها قلقا مستترا و احتياجا داخليا عميقا.
الإدمان الإلكتروني ليس حالة واحدة بل أطياف متعددة تتلون بتنوع الاستخدام وتفاوت الأهواء. فهناك من يستسلم لإغراء الترفيه، وآخر ينغمس في عالم التواصل، و ثالث يغرق في لهو الألعاب. كلها أشكال من التعلق الذي يسرق الوقت و الوعي دون أن نشعر و يقتل العلاقات. بحيث يتعلق المستخدم بهذه المنصات حد الهوس، يتغذى على الإعجابات، ويتنفس من خلال التعليقات، حتى يغدو وجوده الرقمي أهم من وجوده الواقعي.
يتحول اللعب من تسلية إلى هوس، ومن متعة إلى عزلة، يجد المدمن نفسه يهرب من العالم الحقيقي إلى العالم الافتراضي الذي يقوده للتوتر والانفعال والانفصال عن أسرته ودراسته.
فيصبح مدمنا،سواء كان الإدمان على مشاهدة مقاطع قصيرة أو مسلسلات متتابعة، بحيث ينغمس الشخص في المشاهدة المستمرة دون توقف، فتضيع منه الساعات و تنطفئ علاقته بالواقع من حوله.
هناك الإدمان على التصفح العشوائي، حيث ينتقل فيه العقل من صفحة إلى أخرى، ومن محتوى إلى آخر، دون هدف أو غاية واضحة، و كأنما يبحث عن شيء يملأ فراغا داخليا لا يعرف له إسما.
هناك إدمان التسوق الإلكتروني
شراء متكرر لمنتجات لا حاجة لها، فقط لإشباع رغبة آنية أو للهروب من ضغوط نفسية، مما يؤدي في النهاية إلى أزمات مالية وسلوكية.
الإدمان على العلاقات الافتراضية، حيث يبني فيه الشخص عالما من الصداقات أو حب خلف الشاشات، يختلط فيه الحقيقي بالمزيف، و تتوه فيه المشاعر بين كلمات باردة لا تلامس الواقع.
لم يكن الإدمان الإلكتروني وليد لحظة عابرة، بل تراكمت أسبابه كما تتراكم طبقات الغبار على مرآة الروح.
ومن أبرز أسبابه ما يلي:
الفراغ العاطفي والاجتماعي، حيث يبحث الفرد في العالم الرقمي عن تعويض غائب، أو دفء مفقود.
ضعف الوعي الرقمي الأسري والتربوي، إذ يغيب التوجيه وتتقدم الأجهزة كأصدقاء صامتين.
الإفراط في التسلية المجانية التي تقدم بلا مجهود.
الخوارزميات المصممة لجذب الانتباه والبقاء لأطول وقت ممكن. الحاجة إلى الهروب من ضغط الواقع اليومي.
وهذه الأسباب تولد مشكلات معقدة، نفسية وسلوكية و معرفية، تبدأ بفقدان التوازن وتنتهي بانطفاء الإحساس بقيمة الزمن والعلاقات. حين تستيقظ الأرواح يوما على وقع الإدمان، و تدرك أن الزمن انساب من بين أيديها كحلم ليل كئيب.
بعدها تحمل التكنولوجيا المسؤولية. الخطأ ليس في التكنولوجيا، بل في أن نسمح لها نحن بأن تسرقنا من أنفسنا، وأن نسلمها مفاتيح وعينا دون وعي. كفانا كذب على أنفسنا، نحن من نستخدم التكنولوجيا و ليس هي. لذا يجب أن نتعلم كيف نوظفها لحسابنا و ليس لحسابها. المسؤولية كلها علينا نحن.
و من نتائج الإدمان الإلكتروني ما يلي:
اضطرابات نفسية كالقلق و الاكتئاب والانطواء.
ضعف العلاقات الأسرية والاجتماعية الحقيقية.
تدني مستوى التحصيل الدراسي والمهني بسبب تشتت الانتباه.
اضطرابات النوم و الإرهاق الجسدي.
تشويه صورة الذات نتيجة المقارنة المستمرة مع عالم رقمي مزيف.
لكن لكل معضلة حل، العلاج لا يكمن في محاربة الأجهزة، بل في استعادة الإنسان لقيادة وقته وروحه. ومن بين الحلول التربوية والعملية:
تعزيز الوعي الأسري والتربوي بأهمية الاستخدام المعتدل.
تخصيص أوقات محددة للأجهزة مع الالتزام بها.
خلق بدائل واقعية للترفيه مثل القراءة والرياضة والأنشطة الفنية.
تعليم الأبناء مهارات إدارة الوقت والتمييز بين الواقع و الافتراض.
تقوية العلاقات الاجتماعية الواقعية وتعميق مفهوم المشاركة.
طلب المساعدة المتخصصة عند ظهور أعراض الإدمان الشديدة.
أخيرا وليس آخرا، يا من تمسك هاتفك الآن، تذكر أن الحياة ليست إشعارات عابرة و لا مقاطع عشوائية. الحياة شعور، تواصل، تجارب حقيقية، لا تختزل في شاشة. وإن كنا قد ولدنا في عصر رقمي، فهذا لا يعني أن نفقد إنسانيتنا خلف الأزرار.
ربوا أبناءكم على أن يكونوا أسياد التقنية لا عبيدها، وكونوا أنتم القدوة في التوازن والاعتدال. فالأجهزة أداة صماء، ليس بيتا نسكنه ولا ملاذا نهرب إليه. لنعد إلى أحاديث المساء، ودفء اللقاء، و لنعلم أبناءنا أن الحياة لا تعاش من خلف الزجاج، بل من قلب النور و النبض.
لنستخدم التقنية، لا أن تستخدم بنا
و أن نحيا الحياة، لا أن نهرب منها خلف شاشة