محاسبة كل من أسهم في “العشرية السوداء”.. الشعب التونسي يرفض التدخل الأجنبي

أثار بدء تونس، فى تفعيل مبدأ المحاسبة ضد كل من أسهم فى العشرية السوداء، التى عانت منها تونس اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، الذى تضمن حملة اعتقالات واسعة شملت قيادات حزبية وقضاة وإعلاميين ورجال أعمال يواجهون تهما مختلفة، منها التآمر على أمن الدولة، وقضايا فساد وإرهاب وتسفير واغتيالات، العديد من ردود الفعل داخليا وخارجيا، ما بين مؤيد لهذه القرارات فى إطار تفعيل مبدأ المحاسبة، وما بين معارض يراها تصفية حسابات.
كان رد الفعل الأمريكى، هو الأبرز على الساحة، حيث صرح نيد برايس، المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، قائلا: “نشعر بقلق عميق، إزاء التقارير عن توقيف عدة شخصيات سياسية ورجال أعمال وصحفيين فى تونس فى الأيام الأخيرة” مضيفا “أننا نحترم تطلعات الشعب التونسى، إلى قضاء مستقل وشفاف وقادر على حماية الحريات الأساسية للجميع” وأثار بيان الخارجية الأمريكية امتعاض التونسيين، خاصة حملة مؤيدى مسار 25 يوليو، الذين اعتبروه تدخلا سافرا فى شئون بلادهم الداخلية.
ومن جانبه صرح الرئيس التونسى، قيس سعيد خلال لقاءاته المتتالية أخيراً مع كل من رئيسة الحكومة التونسية نجلاء بودن، ومع وزير التجارة، وخلال زيارته لوزارة الداخلية، قائلا: “للأسف أكاذيب وأراجيف يعلمها الشعب، وستأتى الحقيقة ليعلم من عبث بقوته، ومن يحاول ضرب السلم الأهلى، إن حملات التشويه التى تصدر من تونس، وتجد من يستمع إليها ممن لا يعرفون حقيقة الأوضاع إطلاقا، ويتكلمون عن الحرية، وأقول لهم فكرة الحرية استنبطناها من قبلكم، فلينظروا فى تاريخهم، وينظروا فى تاريخنا، ولينظروا فى واقعهم قبل أن يتحدثوا عن الأوضاع فى تونس” مضيفا: “هؤلاء الذين تم اعتقالهم إرهابيون، ولابد أن يحاسبوا بالقانون، لن نترك تونس لقمة سائغة لهؤلاء المجرمين الإرهابيين الذين يريدون التنكيل بالشعب”.
وتابع: “إننا نعيش مرحلة دقيقة وخطيرة، والتهم تتعلق بالتآمر على أمن الدولة الداخلى والخارجى، نحترم الإجراءات، ونحترم حقوق الإنسان، والأمر لا علاقة له إطلاقا بالحقوق والحريات، إن القضية قضية وطن قضية شعب، قضية سيادة للدولة التونسية فى الخارج، وسنسير على هذا النهج حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا، لن نخاف إلا الله، ونحن مسئولون أمام الشعب التونسى”.
ويؤكد الدكتور رافع طبيب، أستاذ العلوم الجيوسياسية والعلاقات الدولية بالمدرسة الحربية العليا، أنه من الواضح أن الحملة الأجنبية على سياسات الرئيس قيس سعيد، قد أخذت منعطفا جديدا بعد الإيقافات، التى طالت رموزا من اللوبى السياسى – التمويلى المرتبط بدوائر غربية، والذى كان يعمل فى الظل، لتشكيل الحكومات قبل انتفاضة 25 يوليو، وكان يوزع الأدوار والمهام بين السلطة الإخوانية من جانب، وشركائها من المعارضين التابعين والممولين مباشرة من دوائر أوروبية وأمريكية ضمن منظومة “التوافق”، لكن الملاحظات التى ساقتها الخارجية الأمريكية كغيرها من التصريحات الصادرة عن منظمات بعينها تنشط فى مجال التدخل “الحقوقي” العابر للحدود والمسلط على دول بعينها، لم تكن لها التأثيرات المرجوة على المستوى الداخلي، وبصفة أخص على مسارات العلاقات الدولية لتونس، وذلك لأسباب تتعلق بالمعادلة الحزبية فى البلاد، وتعقيدات الوضع الجيوسياسى الناشئ فى الإقليم.
ويرى رافع، أنه على المستوى الداخلى، فقد نجح الرئيس سعيد فى فرض منطق المقاومة المنحازة للسيادة فى وجه أحزاب ونقابات ومنظمات مجتمع مدنى أصبحت بفعل استقوائها بالسفارات، وبشكل سافر وعلنى تعتبر لدى أطياف الشعب التونسى، أذرعا تابعة للأجنبى تفتقر للحس الوطني، ومنخرطة فى سياسات تعادى استقلال القرار الوطني، علاوة على تورطها فى شبكات تمويل، واسترزاق تحت عناوين تثبيت التجربة الديمقراطية، لكن أهم ما يمكن ملاحظته هو اصطفاف أحزاب كانت تدعى العداء بينها، وتصرح بتناقضاتها الجذرية سياسيا، فى نفس خندق الدفاع المستميت واللاعقلانى عن السيد كمال اللطيف، الذى قدمته هذه الأطراف على أساس أنه لا علاقة له بالسياسة ولا بالأعمال فى تحدٍ واضح، لما يعلمه كل الناس عن أدواره العميقة تحت كل الأنظمة والحكومات، وهذا الاصطفاف مثل نوعا من الانتحار السياسى لبعض الأحزاب ذات الخطاب الثورجى، التى وجدت نفسها فى لحظة ما مجبرة، على فضح سياساتها المتلفحة بالشعارات البراقة، فى حين أنها لا تعدو أن تكون سوى أحزاب وظيفية لتأسيس مشهد للديمقراطية الشكلية، ولن تتوقف حملة الإيقافات، ولن تكون مفاجأة ادعاء أخطر، وأقوى قاض كان متعهدا بملفات الإرهاب والاغتيال بالجنون، وإحالته إلى مستشفى الأمراض العقلية، آخر حلقة لمسلسل تفكيك منظومة التمكين الإخوانى التى اجتاحت القضاء والسياسة والإعلام، وعوالم المال الفاسد واقتصاد الظل.
أما الإعلامى والكاتب التونسى على الخميلى، فيرى أن حملة الإيقافات فى تونس، والتى شملت عددا من السياسيين ورجال الأعمال وبعض الصحفيين والنقابيين، فسرتها السلطات الرسمية، وأكدها الرئيس قيس سعيد نفسه بالاستجابة لمطالب الشعب وتحقيق المحاسبة، والتصدى لكل أشكال الفساد، ولمن تآمر على أمن الدولة داخليا وخارجيا، وساهم في تكوين وفاق من أجل تغيير هوية الدولة ومحاولة اغتيال رئيس الدولة، وتعميق أزمة تفقير الشعب بالاحتكارات، وإخفاء المواد الأساسية عن المسارات العادية للتجارة، مثل الحليب والزيت والسكر والقهوة وغيرها، وزيادة الأسعار بشكل عشوائي، والقضاء، الذى له الحسم فى تحديد الإدانة أو البراءة، وبالتالى فإنه وفى حالة إثبات تهمة التآمر فعلا، فالإيقافات تعتبر عادية فى كل الدول، لا فى تونس فقط أو بعض الدول العربية، ويؤدى إلى اتخاذ أحكام متشددة جدا حتى فى أعرق البلدان المتبجحة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، كما يعتبر أيضا نعمة من نعم التفاعل مع تطلعات الشعب التونسى لتطهير البلاد، التى لم تعرف استقرارها منذ يناير 2011، من كل الدسائس والتآمر والرغبة فى الحكم بكل السبل، على الرغم من تعاقب الرئاسات والحكومات، وذلك على حساب الشعب والوطن.
ويرى الخميلى، أن تصريحات المتحدث الرسمى باسم وزارة الخارجية الأمريكية، “نيد برايس”، تدخل سافر فى الشئون الداخلية لتونس، واستقلالية القضاء الذى لم يصدر أحكامه بعد، باعتبار أن سيادة تونس فوق كل اعتبار، وليست تحت الاستعمار أو الحماية أو الانتداب كما أشار الرئيس قيس سعيد.
ويقول المؤرخ عبد الجليل بوقره، أستاذ التاريخ المعاصر فى الجامعة التونسية: إذا كان أغلب التونسيين، مجمعين على إدانة الإخوان، ومن يحومون حولهم ويقتاتون من موائدهم، وأغلب التونسيين يرفضون التدخل السافر للدول الأجنبية فى شئون بلدهم الداخلية، فهم ليسوا قصرا ولهم ما يكفى من الوعى ومن النضج، ومن الخبرة ما يمكنهم من معالجة كل الأزمات، فيما بينهم مهما كان نوع تلك الأزمات، ومهما كان حجمها.
ويؤكد عبد الله القلالى، مدرس بكلية الحقوق والعلوم السياسية، أن حملة الاعتقالات الأخيرة، طالت كمال اللطيف رجل الظل القوي، الذى أوصل بن على للسلطة منذ قرابة 35 عاما، وحافظ على نفوذه حتى بعد نهاية نظام بن علي، ومعروف بعلاقاته الوطيدة مع السياسيين الفاعلين فى الداخل والخارج، وبنفوذه داخل وزارات السيادة، خاصة وزارة الداخلية، ولم يفلح أى نظام فى مساءلته، إذن عملية إيقافه، فيها رسالة قوية ذات مفعول رادع، للمشتغلين بالحقل السياسى التونسى.