الأديب إلياس عشّي : لونا قصير ترتاح في أحضان الطبيعة ، فترخي العنان لخيالها فى فراشة التوت
الأديب إلياس عشّي : لونا قصير ترتاح في أحضان الطبيعة ، فترخي العنان لخيالها فى فراشة التوت

الأديب الناقد / إلياس عشّي
مر عامان ونصف على توقيع لونا قصير لروايتيها : القميصِ الزهري ، وبلادِ القبلات ، وها نحن نجتمع حول رواية ثالثة عنوانها : فَراشة التوت . وكعادتي .. ما زلت مصرّاً ، وأنا ألعب دور الناقد ، على ترك التفاصيل ،وعلى التمسك بخطّين أساسين متوازيين :
أوّلهما الإيجازِ لأن ” البلاغة في الإيجاز” كما علّمنا الجاحظ ،
وثانيهما البعد عن الهوى ، والمشاعر ، وردّات الفعل ، متمسكين بوصية الجاحظ الذي حذرنا في مقدمة كتاب الحيوان من الوقوع فيها عندما قال : ” إذا كان الكره يعمينا عن المحاسن ، فإن الحبّ يعمينا عن المساوئ
رواية ” فراشة التوت ” مسرح افتراضي ، قد يكون قرية ، أو مدينةً ، وقد يكون في أي مكان من جغرافية هذا العالم المتشابك حتّى الهلع . ورغم تشابكه نكتشف أنّ بين كلّ إنسان وآخر ، وبين كل دولة وأخرى ، وبين كل دين وآخر ، وبين كل طائفة وأخرى ، وبين كل شعب وآخر ، بين كل هؤلاء خنادق حرب ، وخنادق جوع ، وممرات لا تنتهي للعبور إلى الموت أو إلى التشرد والغربة . ليزا ، كما تصوّرتها ، هي فراشة التوت ، وهي البطلة الأساس في الرواية لأنها قادرة على تجاوز هذه الخنادق والممرات المفخّخة ، وقادرة أن تقول : لا ، فيما الآخرون ” كومپارس ” يتحركون بعفوية لإثبات حضورهم على هامش العمل الروائي .
فمنذ الصفحات الأولى تمسك لونا بيدك ، وتعرفك على ليزا العنيدة ، وليزا الحالمة ، وليزا الشقيّة ، وليزا الباحثة عن الحب رغم عقودها الخمسة التي عاشتها ، وليزا التي ، كما تقول لونا ، لم تشعر يوماً باختلاف الانتماء الديني بين والديها ، بل كانت منفتحة على جميع الأديان ” ، بل كثيراً ما أبدت إعجابها بجبران خليل جبران الذي قال على لسان ” نبيّه ” :
” وإذا أردتم آن تعرفوا الله فلا تشغلوا أنفسكم بحلّ الألغاز ، بل انظروا فيما حولكم تروه يداعب أطفالكم ، وانظروا إلى الفضاء تبصروه يسير بين السحاب ويبسط ذراعيه مع البرق ، ويتنزّل في المطر ، سترون بسمته في الزهر ، وحين يعلو يخفق الشجر بخفق يديه .. ” .
أهم ما في العمل الروائي ، كما اتفق النقاد ، ثلاثة :
الحبكة
والعقدة
والحل ،
ولولاها لما صمد قارئ أمام رواية قد تبلغ المئات من الصفحات ،
لذلك سأترك لكم متعة أن تقرأوا الرواية ، وأن تتعرفوا على غريتا وإيڤي وغلوريا وجلال وكريم وهنري وغيرهم من الأسماء الذين مروا عبر صفحاتها ، وتركوا بصماتهم عليها ، لنتّفقْ .. اتًركوا لي أن أتحدث عن وعاء الرواية ، أتركْ لكم أن تكتشفوا مضمونها .
حافظت لونا في ” فراشة التوت ” على الإيقاع _ الصورة الذي فرضته في ” القميص الزهري ” و” بلاد القبلات ” ، وهذا أمر طبيعي لأن المسافة بين الإصدارات الثلاثة كانت أقل من ثلاث سنوات ،
وكنت أتمنّى أن تطول أكثر. ففي الحديث عن رحيل أخيها آدم ذي الخمس سنوات تكتب: ” رحل في ربيع لم يشهد إشراقة شمس ولا طلوع قمر ، كالوردة التي ما استطاعت براعمها بسط أوراقها ، ولم تسقَ من قطرات الندى لتتفتّح وتزهر ، وذبلت على أرض لم تجفّ بعد من دماء بريئة بعد آن جف الضمير ” .
وفي مكان آخر تأخذ تجربتها الوصفية منحى شعرياً ، ويكفي أن تعيد ترتيبها لتنسبها إلى القصيدة النثرية تغلغلي يا نسمة في الأفق البعيد ، عند الشروق وبعد المغيب ، فما ذنب الرياح من عواصف القدر، وبوح عاشقة تنتظر قدوم الربيع
ومن الواضح أن الكاتبة ترتاح في أحضان الطبيعة ، فترخي العنان لخيالها ، وتلقي القبض على ألوانها وتراتيلها وفراشاتها ، ثم تقفل عليها في كتاب .
وفي الرواية كثير من الصور يمكن التوقّف عندها ، والاستراحة في ظلالها ، بعد كلّ العثرات التي مرت بها ليزا بدءاً من موت والدها وأخيها ، ومرورا بتجربتها القاسية مع هنري .
وبهذا الأسلوب تقترب لونا من المدرسة الرومانسية التي كان روّادها يمجدون الألم ،
ويرتمون في أحضان الطبيعة . وما لفتني في الرواية ألفاظ تأتيك بمنتهى العفوية ، والتبسيط ، والبعد عن لغة المعاجم ، واقترابها من يوميات الناس ،
وأنا أوافق على هذا النمط طالما أن العمل روائيًّ ،
لم أرَ أبداً امرأة تضاهي لونا في الجرأة والتصميم والمبادرة .. اكتشفت نفسها ، وعرفتها ،
عرفت أن مكانها الصحيح وراء الكلمة ، فسعت إليها ، وفهمتها ، وروضتها حتى دانت لها ، لم تلتفت إلى البعض ممن حاولوا النيل من مسيرتها ، فذكرتني بما قاله الروائي تشيكوف في النقاد : ” إن النقّاد أشبه بالذباب الذي يحوم حول الحصان وهو يجرّ المحراث ، فبينما هو ناهض بعمله ، سائر في سبيله ، إذا بذبابة تقع على أذنه وتطِنّ ، ثم تنتقل إلى خاصرته وتدغدغها ، فترتفع أجلاده القويّة ، وتقشعرّ عضلاته المشدودة ، ويهتزّ رأسه وذيله يمينا وشمالا . لماذا تطن الذبابة في أذنه ؟ لأنها تريد أن تقول للحصان : أنا البعوضة الصغيرة أعيش كما تعيش ، بل إني أستطيع أن أعوقك عن عملك .
نعم .. فلقد مضى خمسة وعشرون عاماً وأنا أقرأ ما يوجه لقصصي من النقد ، ولكنني لا أذكر إشارة واحدة ذات قيمة ، أو كلمة قيّمة أرشدتني وأفادتني”.
مات الروائي الكبير تشيكوف عام 1904 ، وما زال في صدارة الروائيين العالميين ، نذكره ونتذكره مع العظام ، فيما لم نسمع باسم واحد من أسماء نقاده . مبروك للونا الجارة والصديقة