قصة الشهيد .. لعنقاء تونس الطفلة ميساء بن ميم (طفلة كفيفة كلماتها تنير الكون)

قصة الشهيد .. لعنقاء تونس الطفلة ميساء بن ميم (طفلة كفيفة كلماتها تنير الكون)

بقلم / ميساء بن ميم (العمر 12 عام)

بولاية “سيدي بوزيد” يقع جبل “المغيلة” مورد الرزق الوحيد لأهالي منطقة السلاطنية: فهناك يرعون أغنامهم، ومن الأشجار التلقائية الموجودة فيه يقطعون الحطب ويحولنه إلى فحم يقسمونه نصفين: يستعملون النصف الأول في الطبخ والتنور ويبيعون الباقي وبثمنه يشترون الدقيق للمؤونة والأدوات المدرسية لأبنائهم، ويشربون من بحيرة كانت هناك، ويغزلون من صوف الأغنام ثيابهم ،وكثيراً ما كانوا يقتلعون “الخرشف والخبيزة” ويذهبون بها إلى بيوتهم فتغسلها زوجاتهم ليُعددن”الكسكسي بالخرشف”أو “مرق الخبيزة”. أناس يحيون حياة بسيطة وسط فقر متقع ويعتمدون على الجبل في كل شيء .كان مبروك السلطاني واحداً من المتساكنين اضطرته الظروف المادية الصعبة إلى الانقطاع عن دراسته كأغلب شباب المنطقة ورعي الغنم لمساعدة عائلته.

كان يسوق الأغنام فجراً إلى الجبل ومعه صديقه “شكري السلطاني” وكلبان لحراسة القطيع. كان الراعي الطفل يعيش في رعب دائم فقد علم أن جماعة من الإرهابيين قد استقروا في الجبل ولكنه كان مؤمناً بالله متوكلاً عليه.

في أحد الأيام حين غربت الشمس استعد الصديقان للعودة فجأة ظهر أمامهما إرهابي ملثم مدجج بالسلاح أمر شكري بقسوة وفظاظة أن يتركه منفرداً بالراعي مبروك ثم قال مغلظاً نبرات صوته: “اسمع أنا أعرف أنك من الأشخاص التافهين اللذين يحبون الوطن وجئت أولاً لأقول لك لا تبلغ الجيش عن مكاننا وإلا…” ثم استطرد بعد صمت قصير في توعد:”على كل حال أنت تعرف ما سيحصل لك إن تجرأت وفعلت ذلك”” انتاب الراعي الطفل رعب أطبق على قلبه كما يطبق الصمت على الجبال الشاهقة، وأحس برعشة تسري في جسده النحيل المنهك من عمل النهار، ووقف شعر رأسه الكثيف، وتجمد الدم في عروقه فكاد يهوي على الأرض لولا أن تشبث بجذع شجرة صنوبر كبيرة قد قُطع نصفها من قبل الحطابين، وأظلمت الدنيا في عينيه فاحتار ماذا يقول للإرهابي الملثم الواقف أمامه؟ أيرد عليه بالرفض فيقتل؟ ولكنه سيموت شهيداً. وتراءت لعينيه أسرته البائسة بلا سند ولا معين غير الله فجف حلقه، واحتبس صوته، وطغى الرعب على كل شعور لديه فلم يرد على الإرهابي ذي اللثام الأسود فضاق الرجل بصمته وقال بصوت كالرعد: “إننا قادرون أن نسيطر على هذا الجبل ونقتل سكان المنطقة”. ثم لا يدري الراعي لماذا أصبح صوته لطيفاً هادئاً وهو يقول في إغراء: “لماذا لا تصبح واحدا منا؟” نطق الراعي بالشهادتين وتمتم:” اللهم رحمتك وعفوك ” فقد كان يعلم أنه سيرفض هذا الاقتراح وعرف الإرهابي سبب صمته فقال: ” سأعطيك مبلغاً قيمته ثلاث مائة ألف دينار ما رأيك؟ مبلغ ينقذ أسرتك الجائعة من الفقر فكر ثم أجب” لقد اشتهر مبروك بتعففه فهو لا يقبل مبلغاً من جار له أو صديق فكيف يقبله من إرهابي؟وينضم إليه فيزيد شقاء أسرته، ويقتل أشخاصاً أبرياء، والأخطر من ذلك كله أن يحارب الجيش الوطني ويساهم في تدمير البلاد. واجتاحه خوف لا حد له فلم يستطع أن يرد بل لم يقدر حتى أن يهز رأسه دلالة الرفض وعرف الإرهابي ما يجول بخاطر مبروك فركله وهو يقول في وحشية: “الجيش يا مجنون ليسوا بتلك الأهمية التي تتصورهم بها إنهم طاغوت، ولكن ثق أنك لن تعيش طويلاً سواءاً بلّغت الجيش أو لم تبلغ .لكن أمامك خيار واحد للنجاة من الموت هو الانضمام إلينا” ثم مضى دون أن ينتظر رداً تاركاً مبروك واقفاً يردد بصوت خافت: “نحن فداء للوطن لن نسكت لمن ظلم حتى لو متنا في القتال كفنونا بالعلم”. حين عاد مبروك إلى بيته روى ما حد ث لعائلته فحذروه من هؤلاء الأشخاص اللذين لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلاً

مضى شهران على لقاء مبروك بالإرهابي الملثم ولم يقتلوه أو يصيبوا أحداً من أفراد عائلته بسوء ولم يره منذ ذلك اليوم. كان يذهب إلى الجبل صحبة رفيقه شكري كما تعودا أن يفعلا كل صباح. حين غربت شمس أحد الأيام كان مبروك ورفيقه قد اقتربا من قمة الجبل ،وبينما هما يستعدان للعودة بقطيعهما إذ برز أمامهما فجأة رجل مغطى الوجه بلثام أسود ولكنه لم يكن نفس الإرهابي الذي التقى بالسلطاني منذ ستين يوماً. كان هذا الملثم طويل القامة ذا بطن منتفخ ضخم ، ورأس كبير كرأس حمار، وعينين حمراوين بارزتين لم يفلح اللثام في إخفاء الشرر الذي تنطقان به ، وقد ظهر أنفه الأفطس من اللثام الأسود، وكان يرتدي معطفاً رمادياً ،وسروالاً أسود ،وكان بطنه المنتفخ سبباً في تركه للمعطف مفتوحاً. فانتهز الملثم هذه الفرصة وأخفى سكيناً في جيب القميص الذي يرتديه، وكانت لباسه أفغانياً. ارتبك الصديقان ونطقا بالشهادتين ، ها هم الإرهابيون ينفذون تهديدهم. لم تمض دقائق حتى أقبل إرهابي آخر ممسكاً حبلاً متينا ، وفي لمح البصر انقضّا على مبروك فشد الأول وثاقه وأخرج الآخر السكين وهو يقول: “الله أكبر” لم يتمالك شكري نفسه أمام هذا المشهد، إنه يرى صديقه ذليلاً بين يدي الإرهابيين يتوسل دون جدوى سيقتلونه هو أيضاً فيموتان شهيدين. هذا ما كان يجول بخاطره ولكنه أفاق من أفكاره على آهة مكتومة لا تريد أن تخرج، صرخة مضغوطة، آخر صوت يخرجه مبروك في هذه الدنيا حين قُطع رأسه. دمعت عينا شكري وجعل يدعو الله بصوت مرتفع ويسأل الله الرحمة لرفيقه فصفعه أحد الرجلين وقال: “اخرس يا مجنون وأوصِل هذا الرأس لعائلة مبروك” ثم استطرد: “لا تبْلغ الجيش بما فعلناه وإلا ستلقى مصير صديقك، هذا جزاء من يتعامل مع الجيش. ” ثم استولى الرجلان على أغنام شكري ومبروك ومضيا تاركين الراعي في حيرة ممزوجة برعب وحزن يحمل بين يديه رأس صديقه الشهيد الذي يتقاطر منه دم أحمر، وسار متثاقلا دامع العينين ، وكانت يداه المبللتان بالدم ترتجفان.

ولما دنا من البيت القديم امتدت يده المرتعشة لتطرق الباب ففتحت لسوء الحظ أم مبروك التي كانت تعاني من ارتفاع الضغط ومرض السكري. ولم يدر شكري كيف يواجهها وبأي طريقة يبلغها أن مبروك مات؟ ويا لها من ميتة بشعة، ميتة على يد الإرهابيين ولكن الأم عرفت ما حدث حين رأت رأس ابنها، وكانت تستعد للصلاة حين طرق شكري الباب وكان منديلها مرفوعاً قليلاً فتشعثت خصلات من شعرها الأبيض على الجبين فجذبتها الأم بعصبية، ولطمت خديها ،وانحدرت الدموع تباعاً من مقلتيها لتبلل وجهها الذي نتأت عظامه وكسته تجاعيد كثيرة، فارتفع ضغطها ووقعت على الأرض.

 

وكان نحيبها قد علا ونشيجها قد ارتفع فبلغ صوتها مسامع الجيران فأقبلوا كباراً وصغاراً، شيباً وشباباً، نساء ورجالاً. والتفّوا حول المغمى عليها التي سقط رأسها على صدرها ، وبللت الدموع الحارة جبتها البيضاء ، وغطى شعرها الأبيض عينيها الجاحظتين التين خبا بريقهما واحمرتا من شدة البكاء. فرشتها الجارات بشيء من ماء وبللن وجهها بعطر حتى تسترد صوابها،

بينما اتصل الرجال بالأب والإخوة الغائبين عن البيت وأبلغوهم بالفاجعة التي حلت بالأسرة.بعد دقائق أفاقت الأم وحملت رأس ابنها بين يديها وجعلت تقبله وتبكي فاختلط دمه الذي جف وكون بمرور الوقت قشورا يابسة بدمعها الحار المتساقط من عينيها.وحين عاد الأب والإخوة ورأوا الرأس المقطوع انتابتهم نوبة غضب جنونية ممزوجة بحزن دفين وأقسموا لإن لم يغادر الإرهابيون الجبل لَيذهبنَّ شكري إلى رجال الشرطة ويبلغ عن مكانهم ،لكن صديق مبروك لم يطق صبراً فاتجه صوب الثكنة وأبلغ الجيش عن مكان هؤلاء المجرمين. فوقع هذا النبأ على قلوب الجنود المناضلين وقع الصاعقة وهبوا مسرعين للقبض على الإرهابيين اللذين عاثوا في البلاد فسادا وبثوا الرعب في قلوب المتساكنين البسطاء.فذهب بعضهم للبحث عن الجثة بينما قام الباقون بتمشيط الجبل للتفتيش عن الملثمين صحبة أهالي المنطقة اللذين أسروا رغم محاولات الجنود التي بذلوها لإبعادهم عن الخطر المحدق بهم من كل جانب والمهدد لحياتهم بالفناء على أن ينتقموا شر انتقام من المجرمين أولاً بدافع الحب لمبروك وثانياً بحافز إجلالهم للوطن والاستعداد للتضحية من أجله بأنفس ما يملكون ولو كانت أرواحهم التي تهون وتصغر مقارنة بتونس الخضراء، فالوطن شجرة طيبة لا تنمو إلا في تربة التضحيات وتسقى بالعرق والدم.

كانت عملية البحث عن الجثة تبلغ من الصعوبة ما لم تبلغه عملية التمشيط نفسها، فالظلام قد أسدل ستاره الأسود القاتم الذي حجب وراء صمته وسكونه ووحشته النجوم المتلألئة في السماء الزرقاء التي تحول لونها بفعل الظلمة إلى أربد. والخنازير والذئاب منتشرة في الجبل كانتشار الجليد في الشتاء. فانتاب الباحثين يأس لا حد له إذ اعتقدوا أن الحيوانات المفترسة قد التهمت جثة الراعي الشهيد ،لكن شعورهم هذا تحول إلى أمل حين رأوا كلبي الراعي جاثميْن أمام الجثة يحرسانها من خطر الذئاب. إن هذين الكلبين أرحم وأوفى من الإرهابيين اللذين خانوا وطنهم وقست قلوبهم المتحجرة الفلاذية على الطفل المسكين.

في اليوم التالي قام أهالي القرية بدفن الشهيد وشارك الجيش الوطني المتساكنين في تشييع الجنازة . كان المشيعون يحملون النعش باعتزاز وفخر فهذا الميت الذي فيه شهيد مثواه الجنة بإذن الله. ودوت زغاريد في الطريق وارتفعت أصوات رجالية تهتف: “لا إلاه إلا الله والشهيد حبيب الله”. وبعد أسبوع من الدفن تم القبض على المجرمين وحُكم عليهم بالإعدام ، وعاشت تلك المنطقة والجمهورية كافة في أمن وسلام بفضل نضال الجيش الوطني وفطنة أعوان الأمن ومقامة الشعب التونسي العظيم. وقد عرفوا أن الوطن سيظل شامخاً محبوباً ولو كره المتطرفون الحاقدون اللذين يقولون أنهم سيضحون بالوطن من أجل الدين لكن الشعوب جميعاً تعرف أنهم لم يفهموا لا معنى الوطن ولا معنى الدين وستظل أرواح الشهداء تاجاً على رأس الوطن على مر الزمان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى