الروح خلق مجهول التفسير ، محسوس الوجود ، فالحيّ هو الذي فيه روح ، والميت لا روح فيه ، لأن الروح ترتبط بالحياة ، أو أنها الحياة نفسها ، و سرّ وجود كل حيّ . ولأن الأرواح اجتماعية فهي تبحث عن شريكها المناسب لها ، وتتجمّع في معسكرات تعارف :
تتجنّد فيها وتحتشد وتبحث عن أليفها ليشكّلا معاً صنفاً وجنساً متقارباً مؤتلفاً مشتركَ الصفات والخصائص .
و للأرواح قدرة على التخاطر وإدراك خبايا الأنفس ، وأثرها عميق بعمق التجاذب الذي يجمع بين تلك الأرواح !!
وفي الحياة للروح مواقف غريبة لا يمكن تفسيرها .. بدليل أن يحدث أحيانا أن يشاهد الفرد وجهاً فيألفه . أو يسمع صوتاً يجذبه نحوه دون أن يراه . وكذلك حين يجلس مع شخص لدقائق معدودة ثم يخرج من اللقاء وكأنهما يعرفان بعضهما منذ سنين .
وقد يتحدث مع إنسان لا يمت إليه بصلة وتبعد بينهما المسافات أو تفصلهما السنوات فيرتاحان لبعضهما ويشعران بأنها يقرآن أفكار بعضهما ويجيبان عن تساؤلات تشغلهما حتى قبل السؤال عنها !!
ولربما يفشيان لبعضهما بكل مكنونات النفس عن طيب خاطر منذ لحظة اللقاء الأول ولا يفكران في لحظة أن ظن أحدهما فيه سيخيب بالآخر !!..
كل هذه المواقف ليس لها إلا تفسير واحد وهو تلاقي الأرواح وتآلفها وتوافقها مهما اختلفت الظروف ومهما باعدت بينها المسافات .. وذلك تصديقاً لقوله صلى الله عليه وآله وسلم :
“الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف” .
إذاً ، هي لغة القلوب حين تتلاقى .. وتلاقي الأرواح ليست مسألة علاقة عاطفية ، أو حباً بين اثنين ، لكنها أكبر من ذلك بكثير فهي قد تبدأ بمسألة إعجاب و تتطور لتصبح علاقه سامية بعيدة عن الأغراض الدنيوية الزائلة .
ولكل إنسان شبيه روحي يتناسب معه ، وكما أن هناك من يحب أحداً بلا سبب ، هنالك أيضاً من يكره بلا سبب !!. وحين تُعجب الروح بالروح تتولد مشاعر لا تفسير لها ، وماذلك إلا لأن الوجوه والأشكال تتكرر أما الأرواح فلا تتكرر ، وعالم الأرواح يتعدى الشكليات والماديات من حيث التجانس في الطباع والأخلاق الخفية ، وهو مايورِّث تجاذب الأرواح أو التخاطر العاطفي و الالتقاء الروحي .
ثمة أرواح التقت واتفقت واشتاقت ، وجمعها تجانس عجيب فانساقت لبعضها البعض كما تنساق الأرزاق !!..
ومما لا يدركه الكثيرون أنه قد يحدث تلاقٍ غير عادي بين الأرواح البشرية ، ويكون ذلك التلاقي مرتبطاً بحالة من الانسجام الفكري ، لأن الارتباط الإنساني – الروحي في حقيقته – بين شخصين إلى درجة أنهما يستشعران وكأنه يوجد بين روحيهما رابط خفي يصل فيما بينهما .. والغريب أن الغالبية العظمى من الأشخاص المحيطين بهما يفسرون هذه الأحداث بأنها من قبيل المصادفة أو الاتفاق المسبق دون أن يدركوا ذلك التجاذب بين الأرواح المهيأة لأنْ تتطابق في أحاسيسها ومواقفها وردود أفعالها دون سابق إنذار . وهذه الحالات وإن كانت نادرة الحدوث ، إلا أنه لا يمكن إنكار وجودها ، لأنها مرتبطة باللاشعور الكامن في خبايا النفس الإنسانية ، وهذا التوافق بين إنسان وآخر لا يكون بسبب توافق عمري ولاجنسي ولا لوني ، ولا بالرفقة المستمرة ، لكنه سرّ من أسرار التوافق الروحي ، ونعمة قدرية تصيب قسماً من الأشخاص لا يدركون لها تفسيراً منطقياً ولا عقلانياً واضحاً ..
وفي الواقع فإن الطبيعة تنبئ على هذا التوافق والتنافر في الكيمياء ، حيث هناك أيونات تتفاعل وتتجاذب . وكما في الفيزياء هناك عناصر تتآلف وتتنافر ، كذلك هي الأرواح ، فهي تتجاذب وتتنافر لأنها الأصدق إحساساً والأكثر عمقاً .
يقول د.مصطفى محمود :
(الحب ثمرة توفيق إلهي وليس ثمرة اجتهاد شخصي ، هو نتيجة انسجام طبائع يكمل بعضها البعض الآخر ونفوس متآلفة متراحمة بالفطرة ) ..
وتقول دراسات علم النفس :
(إن سبب عدم قدرتك على إخراج شخص من تفكيرك هو أن الشخص ذاته يفكر بك أنه تجانس الأرواح) ..
فالتشابه الأخلاقي يولِّد تجاذباً روحياً عند وجود إنسان يشبه إنساناً آخر ، ليس بالمظهر ولكنه تشابه بالروح ، وهو أشبه بطاقةٍ كامنة موجودة من ذي قبل ، إذْ يتم تأجيل توافق المشاعر إلى حين وصول اللحظة المادية التي تجمع الروحين بلقاءٍ حاسم ليتمَّ تلاقي الأرواح وتناغم الفكر وتجانس النبض . من هنا يمكن القول بأن علاقات الحب الناجحة المستمرة سببها تآلف الأرواح ، والعكس صحيح . ولعل هذه الظاهرة غريزة فطريـة بعيدة عن الحـواس الطبيعية الخمس التي نعرفها .
أما علم المنطق والعقل فيسمي هذه الظاهرة (تآلف الأرواح) ، أو أن مايحدث يكون حدثاً من زمن بعيد واستقر في العقل الباطن (اللاوعي) حتى جاءت اللحظة المناسبة ، وصار التلاقي دون ترتيب مسبق ، ولا عن سابق معرفة . وقد قال المخرج العالمي مصطفى العقاد رحمه الله تعالى :
(نحن لا نحب حين نختار ، ولا نختار حين نحب ، إننا مع القضاء والقدر حين نولد ، وحين نحب وحين نموت) .
ويقول الشريف الرضي:
أنا أنتَ .. وأنتَ أنا ..
كلانا روحان سٓكَنّا بَدَنا
قال لى المحبوب لما جئته :
مَن ببابي ؟..
قلتُ : بالباب أنا
قال : أخطأتَ تعريفَ الهوى
حينما فرَّقتَ فيه بيننا
ومضى عامٌ فلما جئته
أطرقُ الباب عليه موهَنا
قال : من أنت ؟..
قلت : انظر
فما ثَمَّ إلا أنتَ بالباب هنا
قال : أحسنتَ تعريفَ الهوى
وعرفتَ الحبَّ فادخل يا أنا .
ودائماً ما يثق الأشخاص المتوافقون ببعضهم البعض روحياً ثقةً قوية دون أن يسبق تلك الثقة أي تفكير ، لأنهم يشعرون بوجوب أن يثقوا ببعضهم البعض ، وهذا ليس بفعل الانجذاب ، وإنما لأنهم أناس طيبون وجديرون بثقة بعضهم البعض .
ويشعر الأشخاص المرتبطون روحياً بالأمان ، فيهدِّئون بعضهم في المواقف التي يسود بها الإحباط أوالتهديد ، كما يساعدون بعضهم في التغلّب على القلق وتدني احترام الذات وغيرها من المشكلات العاطفية .
ومهما كانت فترة معرفة الأشخاص ببعضهم سيشعر المتوافقون روحياً بأنهم يعرفون بعضهم البعض منذ زمن بعيد ، بالإضافة إلى رغبتهم باستمرار هذا الشعور إلى الأبد ، إذْ أنهم يبثون لبعضهم الإحساس بالإِلفة التي لا يشعرون بها أبداً مع أي شخص آخر ..
والأشخاص الذين يُشعرون بعضهم بالقلق كثيرون ، لكن الحال لن تكون هكذا مع الأشخاص المتوافقين روحياً ، لأنهم يرتاحون لوجود بعضهم ، ويشعرون بأنهم مرآة بعضهم ، ومهما يحدث حولهم فهم يستطيعون الشعور بالسلام بوجود بعضهم إلى جانب بعض مهما فصلت بينهما المسافات .
وينجذب المتوافقون روحياً إلى بعضهم بشكل قوي ، ويمكن أن يُشبَّه هذا بدخول شخصين غريبين إلى غرفة مظلمة ورغم ذلك يشعران بالانجذاب لبعضهما البعض ، وهذا الانجذاب التلقائي يعني بأن هذين الشخصين قد جمعتهما رابطة روحية قوية لا مجال للشك فيها.
ورغم أن الاحترام سِمَةٌ مميزة لكل علاقة ناجحة ، إلا أنه يأخذ شكلاً خاصاً بين الأشخاص المتوافقين روحياً ، إذْ يبادر كل طرفٍ منهما بالاستماع للآخر بشكل دقيق ، وعندما يتحدّث أحدهما فإن الآخر يولي اهتمامه الكامل للحديث ، ولا يقاطعه أبداً ، لأنّ كلاً منهما يُقَدِّر ما يشعر به الآخر ويفكّر فيه .
وعندما يرتبط شخص ما مع شخصٍ آخر برباطٍ روحي يشعر بأن سعادته أصبحت من قيامه بإسعاد ذلك الشخص ، إذْ نُقابل الكثير من الأشخاص في حياتنا ونبحث عن السعادة والحب والراحة معهم ، ولكننا لن نشعر بتلك السعادة مكتملة إلا مع الأشخاص الذين تربطهم علاقة روحية قوية معنا .
كما يبادر الأشخاص المتوافقون روحياً بعمل كل ما يحتاجه كل طرف منهما لبعضهما البعض ، ويُشعِرون بعضَهم باللطف وبالحب والمودة ، كما يسعون إلى تحقيق رغبات بعضهم ، ويُضحّون من أجل بعضهم ، وهذا ما يجعل علاقتهم مليئة بالحب والسعادة .
والمعروف أن أحد أهم علامات وجود الاتصال الروحي بين شخصين هو توافقهما بالقيم وبالأفكار ، وهذا يقود إلى اتفاق كلٍ من الطرفين على القرارات المهمة في العلاقة ، وتكون لديهما عقلية متوافقة رغم وجود بعض الاختلافات البسيطة التي تعطي روحاً للعلاقة ولا تعطي تنافراً . وعندما تقوم مناقشات حول أساسيات الحياة يكون هناك توافقٌ كبيرٌ بالقيم الأساسية وبالأفكار بينهما .