د.علي أحمد جديد يكتب / السحر (Magic)

د.علي أحمد جديد يكتب / السحر (Magic )
تاريخاً و واقعاً ..
إن أفضل وصف لتعريف “السحر” هو أنه تغيير حالة شيء ما أو حالة شخص ما دون خرقٍ لقوانين الطبيعة والفيزياء . ويعتقد البعض أنه قد يمكن لفعل “السحر” خرق قوانين الفيزياء في بعض الحالات . ولكن في الواقع هناك إلتباس بين “السحر” وبين كلٍّ من “خفة اليد و الشعوذة” ، وتستعمل كلمة “السحر” كوصف لجميع هذه المصطلحات اختلافها عن بعضها البعض .
وقد حاول العديد من الفلاسفة وعلماء الأنثروبولوجيا والمؤرخين وحتى علماء (اللاهوت القَبّالي) الذين توارثوا ماتعلّموه من سحر (هاروت و ماروت) أيام سبي بني إسرائيل في (بابل نبوخذنصّر) وطوال القرون الماضية أن يتوصلوا إلى ماتعنيه كلمة “السحر” ، لكن جهودهم لم تسفر إلا عن تضييع معناها كليّاً . ولهذا السبب فإن عدداً كبيراً ممن يدرسون ممارسة “السحر” سواء في الماضي أو في الحاضر يستنكفون عن تقديم تعريف أو وَصفٍ مفصَّلٍ له ، مفترضين أن قرَّاءهم يفهمون أن “السحر” هو كل ما يتعلق بتحكم البشر في قوىً خارقةٍ للطبيعة . وبعيداً عن الوسط الأكاديمي ، فإن “السحر” لا يزال يغزو الخيال واللغة الشعبيين . ولايشعر الناس بأي غضاضة إزاء تعدد معانيه في الوقت الراهن ، متجاهلين ما أثاره ويثيره تعريف “السحر” من جدل ونزاع ونقاش على مدى القرون الممتدة منذ 586ق.م الذي هو تاريخ سبي بني إسرائيل إلى (بابل نبوخذنصّر) أي أكثر من ألفين وخمسمائة عاماً . وفي الاستخدام الشائع اليوم ، تَرِدُ كلمة “السحر” في الإشارة إلى كل خارق للطبيعة أو للخرافة والوهم وكذلك في وصف الاحتيال والقدرات غير الطبيعية أو الخيال ، باعتبار كلمة “سحر” لفظاً شاملاً وجامعاً ، كاستخدام مصطلح “سحر السينما” مثلاً ، كما أن هناك أنواعاً من الجنس الأدبي التي تحمل صفة “الواقعية السحرية” هي محط إعجاب الكثيرين . كما أن العلماء المعاصرين قاموا بإدخال كلمة “السحر” إلى قاموس مفرداتهم للدلالة على نتاجاتهم و اكتشافاتهم واستخدام مصطلحات مثل: “الحمض السحري” و “الزاوية السحرية” وغيرها منذ عصر التنوير الأوروبي ويُنظر إلى “السحر” عادة بوصفه أمارة على البدائية وعلى المرحلة المبكرة من التطور البشري الغارقة في ظلام الجهل ، ولا يزال الكثيرون في عالمنا المعاصر المعولم اليوم يَلجَأون إلى “السحر” ، كما مازالوا يتوجسونه ويخشونه أيضاً . لأن كلمة “السحر” تقدم تفسيرات ومبررات مريحة نوعاً ما لمن يعيشون في الفقر ويفتقرون إلى البدائل الواقعية والمنطقية الأخرى . وكذلك في الغرب الصناعي بكل ما فيه من أنظمة الرعاية الاجتماعية التي تتولاها الدولة ، يستنكر الأصوليون المتدينون تأثير “السحر” من التهديد الأخلاقي المتفشي في مجتمعاتهم تحت ستار الوثنية الجديدة حتى أن ممارسة السحر باتت (ديانة جديدة) في حد ذاتها لها اتباعها وطقوسها وقوانينها الخاصة كعبادة (الشيطان) مثلاً .
وبهذا يكون كل تعريف للسحر هو نتاج عصره ، لأن الكلمات والمفاهيم تحمل معانيَ متعددة التي تغيِّر المعنى المتداول اعتماداً على التطور الاجتماعي والثقافي والديني والفكري للمجتمع الذي يمارسه ويستخدمه . كما يمكن أن يقدم “السحر” وسيلة في استكشاف العلاقات في المجتمعات التي تعتمده .
وبالعودة إلى أصل الكلمة نرى أن كلمة “سحر” مستمدة من الكلمة اليونانية “ماجيا” التي كانوا يستخدمونها في الإشارة إلى المراسم والطقوس التي يؤديها “الماجو أو الماجوي” أي المجوس الذين هم كهنة سحرة من الشرق ، من “كلدو أو الكلدان” التي كانت مملكة بابلية جنوب العراق الحالي ، أو فارس، التي هي الجمهورية الإسلامية الإيرانية اليوم . وأصل كلمة (المجوس) هو من الكلمة الفارسية “ماكوز” . وكانت لفظة “ماجيا” عند الإغريق في ذلك الوقت كلمة أجنبية وكانت لديهم مفردات أخرى في وصف السحر ، حيث كانت كلمة (نيكومانتيشا) التي تعني (استحضار الأرواح) أو التواصل مع الموتى لأغراض تَنَبُّئِيَّةٍ . وكذلك كلمة “فارماكا” التي تُستخدم للتعاويذ ولتحضير العقاقير وسموم المشعوذين والساحرات ، ولفظة (جويتس) وتعني المشعوذين الخبراء في الخداع وابتداع التعاويذ . ولم يكن هناك تخصيص مباشر لألفاظ محددة في التعبير عن كل حرفة من حرف “السحر أو الشعوذة” لدى الإغريق القدماء ، وللملاحَظ في بعض المصادر أن كلمة (ماجيا) كانت تُستخدم بالتبادل مع كلمتَي (جويتيا و فارماكا) للدلالة على ممارسة الشعوذة ، رغم أن كلمة (فارماكا) إنما تعني (تحضير العقاقير والأدوية) . ولم تكن كلمة (ماجيا) في القرن الخامس قبل الميلاد لفظة شاملة أو جامعة للتعبير عن الممارسات السحرية كما كانت في العصر الروماني ، لأن معظم المعروف عن (الماجوي) إنما هو مستمد من المصادر الإغريقية في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد التي كانت تُتخَذُ المواقف العدائية من الطابع الديني الغريب الذي يتسترون به ، فقد وصفهم (سوفوكليس) بالكهنة المتسولين والمحتالين ، بينما يشير مصدر آخر إلى “خدع الماجوي” كما تصفهم المصادر بأنهم كانوا متجردين من أي شعور إنساني ويشرفون بأنفسهم على تقديم الأضحيات من البشر والحيوانات على حَدٍّ سواء ، ويشيعون بأنهم يسيطرون على أرواح الموتى ، والقدرة على شفاء المرضى . ووفقًا لما ذكره (هيرودوت)مؤرخ القرن الخامس قبل الميلاد ، فإنهم كانوا يشرفون على طقوس إراقة دماء الضحايا والأضحيات ويفسرون الأحلام وأنهم يتحكّمون بكسوف الشمس وكانوا يرددون الترانيم والتعاويذ للآلهة كل وقت من شروق الشمس ، وتختلف ممارساتهم عن ممارسات رجال الكهنوت الإغريق . ففي حين كان “الماجوي” مثلاً يمارس طقس إراقة الحليب ، فإن الإغريق لم يمارسوا هذا الطقس ، وكان “الماجوي”يتلون ترانيمهم الخاصة ويمارسون طقوسهم بالهمس أو كانوا يتغنَّوْن بها بصوت منخفض ، وهذه ممارسة مشبوهة . وكان من المعتقد أنهم يمارسون سِفاح المحارم كسلوكٍ عادي .
وحين كانت “الزرادشتية” الديانة الرئيس لبلاد فارس في القرن الخامس قبل الميلاد ، وكان (زرادشت) نبيّهم الأسطوريّ يبشّر بالسلطة الإلهية للكيان الأسمى “أهورا مازدا” كمَصدرٍ لكل الخير الذي سينتصر في نهاية المطاف على قوى الفوضى والشرّ في العالم . كانت المراجع الإغريقية الأولى تربط ربطاً مباشراً بين (زرادشت والماجوي) ، وصار ذلك الربط حقيقة واقعة مع حلول القرن الرابع الميلادي . فقد كان الزرادشتيون يوصَفون بأنهم (المجوس) عبدة النار ، لكنهم في الواقع لم يكونوا يعبدون “النار” في حدِّ ذاتها ، وإنما كانوا يعتبرون أنها تمثل حكمة “أهورا مازدا” المأخوذة عن الفكرة اليهودية في (التلمود) والتي تتحدث عن (لوسيفر) أي “الشيطان” المخلوق من النار والجدير بعبادته رَبّاً خالداً لايموت . وإذا صحَّت الأقوال الإغريقية التي تصف الكهنة بأنهم متجولون أو متسولون ، فإن هذا شاهد على أن “الماجوي – المجوس” الفرس القدماء كانوا قد شدوا الرحال نحو الغرب كي ينشروا عقيدتهم أو ممارساتهم وطقوس الديانة الزارادشتية . ولا شك أن انتشارهم هذا يرتبط تماماً بغزوات الملك الفارسي (خشایارشا) في ثمانينيات القرن الخامس ق.م على الأراضي اليونانية ، وبأنهم المسؤولون عن نقل “السحر” إلى بلاد الإغريق (اليونان القديمة) . كما انتشرت في العالم الروماني الشائعات التي تُروّج بأن بعض كبار المفكرين الإغريق قد رحلوا شرقاً نحو بلاد الفرس كي يأخذوا فنون “السحر” عن (الماجوي – المجوس) هناك .
وخلال العهد الروماني ، اتسع نطاق تعريف “الماجيا” ، ولم يعد اللفظ يشير إلى أنشطة الكهنة الأجانب أو إلى عقيدة غريبة أو غامضة . وكان أول مظاهر هذا التحول في كتابات العالم الروماني المناصر للمذهب الطبيعي (بيلينيوس الأكبر 23 – 79م) ، الذي تناول في موسوعته (التاريخ الطبيعي)مجموعة كبيرة من المعتقدات والممارسات التي سمَّاها “الأباطيل السحرية” وأنكر فعاليتها مُكرّراً نَسْبَ أصولها إلى الفرس . وفي الوقت الذي كان (بيلينيوس) يكتب فيه موسوعة “التاريخ الطبيعي” ظهرت أولى نصوص العهد الجديد من الإنجيل المسيحي ومعها روايةٌ تحكي كيف اتبع “المجوس” نجماً من الشرق وهم يحملون الهدايا إلى المُخَلِّص (يسوع) السيد المسيح عليه السلام وهو رضيع ، وصارت الطريقة التي أوَّلَ بها آباء الكنيسة المسيحية قصة المجوسيين الثلاثة جزءاً من عملية شاملة حاولت الكنيسة من خلالها استئصال فكرة “السحر” من كتاب “إنجيل العهد الجديد” ، فتَمَّ الفصل الجذري بين “السحر” وبين الدين ، أي بين الأسطورة والخرافة وبين العقل ، وكانت فكرة “السحر و التنجيم” تقود مفاهيم(المجوس) وطقوسهم إلى مصير إنكار عبادة النار . وقد تساءل الفيلسوف ترتليانوس القرطاجي (حوالي 160م–220م) :
*- هل كانت ديانة المجوس تشكِّل ظهيراً كان يستند إليه المنجمون أيضاً ؟!..
لتكون الإجابة (لا) ..
لأنه وكما فسّر هو وغيره من آباء الكنيسة “أن أي قوىً شيطانية أو خرافية تمتع بها هؤلاء “المجوس” قد تبدَّدت بفعل النجم اللامع والغاية المقدسة لرحلتهم التي كانت غايتها تقديم الهدايا للسيد المسيح عليه السلام .
وقد تقبَّل (أوريجانوس) المعاصر للفيلسوف القرطاجي (ترتليانوس) حقيقة أن “المجوس” كانوا مُنجِّمين بالفعل ، لكنه كان مقتنعاً بأن ما قادهم إلى الطفل (المسيح) عليه السلام في رحلتهم لم يكن هو العلم الزائف ، وإنما كان تفسيرهم للنبوءة التي تنبأ بها نبيُّ العهد القديم الوثني (بلعام) حين قال بأن نجماً سيخرج من (آل يعقوب) الذين ينحدر منهم (يسوع) عليه السلام . ورغم ذلك فقد أعيد تعديل وصف المجوس الثلاثة الذين انقطعت صلتهم بالسحر إلى أنهم الملوك الحكماء من المشرق وكانوا من العارفين بولادة المُخَلِّص السيد المسيح عليه السلام ومجيئه ، وصاروا رموزاً مهمة في الأيقونات والأساطير المسيحية .
وعلى مدار القرون التي تلت ذلك ، تم تعديل تعريفات “السحر” حين ظهرت فئات جديدة من المفاهيم التي سعى من خلالها رجال الديانتين المسيحية والمحمدية إلى فهم الجوانب المختلفة من السحر فهماً عقلانياً أفضل ، بدلاً من رفضها لأن “السحر” لم يكن مجموعة واحدة من الممارسات ، وإنما كان صنوفاً تغطي حقيقة الإدراك الديني والعلمي . وظهر في القرون الوسطى مصطلح “السحر الطبيعي” كوسيلة للتمييز بين (السحر الجيد) وبين (السحر السيئ) ، أو بين مايسمى (السحر الشرعي) وبين (السحر غير الشرعي) . لأن السحر الطبيعي إنما هو عجائب وأسرار العالم الذي خلقه الله تعالى ولم يكن مثل أباطيل الثقافات أو الديانات الموضوعة الأخرى ، وإنما كان مفتاحاً في استكشاف الخصائص الخفية للحياة المادية . وعندما حاول علماء الاجتماع في القرن التاسع عشر فهم الممارسات السحرية في ثقافات الماضي والحاضر ، عملوا على تصنيف “السحر” كخصائص كونية في مصطلح “السحر المتجانس” للوصول إلى العلاقات الغامضة أو المستترة بين أشياءٍ ترتبطُ ببعضها و تَجمعُها أَوْجهُ تَشابُهٍ ظاهرية . وبهذا بات للسحر أساسه المنطقي حتى وإن كان زائفاً . لكن قوة السحر كأداة بلاغية بقيت طاغية . وظل تعريف ممارسة السحر من منظور مزاعم الخداع الغريبة للسحرة والكهنة الأجانب تحديداً .
– للبحث بقية –