قرأت ماأدهشني حتى الذهول للشاعر السوري الكبير (محمد الماغوط) بعد أن استطاع استقراء المستقبل الذي نعيشه اليوم وتنبأ بفراسته وبحروفه المُذهّبَة من كتابه (سأخون وطني) وكأنه يراه في فنجان قهوة ترتسم الخطوط على جدرانه حيث يقول :
* – من الغباء أن أدافع عن وطن لا أملك فيه بيتاً ..
ومن الغباء أن أُضحّي بنفسي ليعيش أطفالي من بعدي مشردين ..
ومن العار أن أترك زوجتي فريسة للكلاب من بعدي ..
الوطن حيث تتوفر مقومات الحياة لا مسببات الموت !!..
والانتماء كذبة إخترعها الساسة لنموت من أجلهم ..
لا أؤمن بالموت من أجل الوطن .. الوطن لا يخسر أبداً ..
نحن الخاسرون ..
عندما يُبتلى الوطن بالحرب ، ينادون الفقراء ليدافعوا عنه !!.. وعندما تنتهي الحرب ينادون المسؤولين ليتقاسموا الغنائم !!.
وفي التعليق على ماكتبه (الماغوط) العظيم في استقراء المستقبل أقول :
إنْ صدقتَ بكل ما قصدتَ فيما كتبتَ وقلت ، فهو كلام .. مجرد كلام يتفجَّر في صَدرٍ مشحون بالغيرة على الوطن ، ومن قلبٍ طافحٍ بالقهر وبالألم والغضب ..
ولكن ،أيها الأديب الكبير ، يبقى للوطن كلاماً آخر .. ورغم أن كل ماقلته صار واقعاً مفروضاً ، إلا أننا مازلنا نضحي وندافع عن الوطن ، لأننا نؤمن أنه وطننا ، الذي لم نعد نملك منزلاً فيه ، ولا كوخاً ، ولا قوت يومنا حتى !!..
فهل نحن أغبياء اليوم كما قلتَ ، وكما رأيتَنا وكنتَ ترانا !!..
ليس غباءً أن نعشق الوطن ، لأن عشقنا للوطن هو إيمان ، وعبادة .. وصلاة ..
نعيش ، ونعلم أننا لانملك ما يمكن أن نُحسَدَ عليه اليوم في هذا الوطن ..
ونرى من المُشرَّدين أطفالاً وشيباً جياعاً ، وشباناً يسرقون ليأكلوا ، ونساءً تَبِيعُ أجسادَها على زوايا الطرقات في سبيل تأمين قوتهن وحليب أطفالهن ..
وما ذلك إلا لأنهم ، وأنتَ تعرفُ من الذين أقصدهم ، قد جَفّفوا لنسائنا الحليب في أثدائهن !!..
آهٍ أيها الماغوط العظيم .. لو ترى كيف باتت تأكل حرائر الوطن بأثدائهن بعد أن ضيّقوا عليهن سبل الكرامة والإباء !!..
وصِرن تُقارِعنَ غدرَ الزمان بكلابه الذي حوَّلَ وفاء الكلاب إلى استذئابٍ وتَوَحشٍ ماعرفته الغابات من قبل ..
أيها الماغوط العظيم ..
نحن في وطن يقتلون لنا فيه كل مسببات الحياة ..
حتى تحوّلنا إلى عبيدِ بطاقةٍ نستجدي بها خبزنا وزيتنا وقوت يومنا ، كما المتسوّلة التي تحمل بين يديها طفلاً مشوَّها وتسأل به عطاءات الناس ..
قدّمنا للوطن من قوافل الشهداء والجرحى والآلام والفواجع زينةَ شبابنا وأبنائنا ، ووَفّروا لنا كل مسببات الموت انتحاراً أو انفجاراً أو غرقاً في الهجرة للبحث عن خلاص غير موجود !!..
ولكن .. سيبقى هذا الوطن حقيقة في وجداننا .. ونبضاً لقلوبنا أيها الماغوط العظيم ..
وما كان الوطن يوماً كذبةً ولا كان سراباً ..
الوطن وطننا وإليه انتماؤنا ، مهما حاولت رموز العهر أن تسلبنا رسوخَ الانتماء ..
ونحن ننتمي دون تظاهر ودون شعارات ولا نفاق ..
وصحيح أنهم أوصلونا لأن يموت أبناء الوطن ويستشهدون دفاعاً عن أرضه ، وباتوا يتحكّمون بكل مفاصل الوطن تحت شعاراتهم الزائفة والكاذبة ..
نعم ، نحن نموت ، وهم يبقون أحياء ويكدّسون أرصدةً من ثروات الوطن ومن لقمة فقراء شعبه ..
إنهم يسرقون الوطن وأمواله ، ويبيعون دماء شعبه وثرواته !!..
الوطن أيها الماغوط يُفتدى – عند الملمات – بأحراره وبأهله الذين يؤمنون صدقاً بمعنى الانتماء وبحقيقة الهوية ، وليس بالارتزاق ، ولاببيع المواقف ، ولابالتخلي عنه أو بتهريب الأبناء إلى الخارج بعد تحميلهم ما تمَّ نهبه وسرقته عنوة أو في غفلة من الزمان !!..
الوطن أيها الماغوط العظيم باقٍ .. وسيبقى لأنه ثابت في القلب وفي الوجدان وليس كلمةً للمزاودة ، ولا وسيلة للامتطاء ..
الوطن لا يخسر حتماً ، لكنهم يعملون كل شيء كي يخسر اليوم كل ماضيه وحضارته ، ويَجهدون كي يبقى ويدفع في الحاضر وفي المستقبل من أبناء شعبه ، وكل ما يملك من الحضارة والتاريخ والثروات ..
قد يكون الخاسر الأكبر هو نحن الشعب ..
لكنها حالة طارئة ولاتدوم ، لأن الوطن في كل مكان ..
الوطن هو الإيمان ..
وهو راسخٌ وثابتٌ في القلب والوجدان ..
نحن الباقون مهما أظهرونا مهزومين أمام واقع يفرضون علينا أن نعيش قساوته ..
وهم زائلون لأنهم الطارئون ..
عذراً ، أيها الماغوط العظيم ..
نحن للوطن ..
أبناؤنا للوطن ..
ودماؤنا للوطن ..
ولن نتخلى عن الوطن ليعيثوا فيه فساداً ونهباً وخيانة ..
لن نخون الوطن ولن نلفظه ، لأنه وطننا الزاهي منذ فجر التاريخ .. ولأننا نحن هو الوطن الذي علّم العالم كيف يقرأ ..
وكيف يغنّي ..
وكيف يلوّن ..
واليوم نعلّمه كيف يضحي ..
لن نبقى أيها الماغوط العظيم في الوطن صامتين ..
فصوتنا وصراخنا سيكون الوطن ، وللوطن ..
ثِقْ أيها الماغوط العظيم ، وأنت ابن هذا الوطن ، بأن الوطن سينتفض وسيصحو قريباً ..