أخر الأخبار

” ما لم يكتشفه كولومبس “

لآلىء

 

 

” كنت كلما غضبت منه أو ثرت عليه أعود أدراجي إلى الوراء إذا لاحت منه لحظة ضعف أو ومضة حنان مستترة هكذا خلقت لا أعرف الطغيان ولا أستطيعه ، ولا أقبله إن وجدت إليه سبيلا ،

 

 

 

 

كثيرا ما أبكاني أبي تارة على حق بدافع تقويم خطء وتارة على باطل بالدافع نفسه ،

 

 

منذ طفولتي إلى شبابي لم أره يبكي إلا مرات قليلة ؛ عزيزة في التكرار شحيحة في الاستمرار ، كانت أول مرة وهي قديمة العهد بي وبه وبجدتي التي بكى من أجلها – عندما مرضت ذات يوم – وكان يجلس إلى جوارها ونفر من ذوي الأرحام ، فسمعت منه شهقات بكاء خفيضة الصوت لكن وقعها جلل في أذني ، وتطلعت إلى عينيه على ترقب واستكشاف فلم ألحظ عبراته لأنه سارع إلى إزالتها وإخفائها كأنه وقع في زلة استدرك نفسه منها ،

 

 

 

ثم مرت السنون وانقضى منها ما يقرب العقد وقد نسيت تماما أمر البكاء بفعل الأحداث وبفعل ما كنت أراه من أبي من قوة وصلابة وغلظة وكأن الذي بكى ليس أبي بل هو زائر يشبهه تماما ، زائر ألقى في نفسي وهم أن أبي يستطيع البكاء وإنه يمتلك بين جفنيه تلك القطرات الطاهرة النقية التي يسمونها دموعًا لكنني أراها لآليء وجواهر نفيسة ونادرة وبخاصة عندما تكون من أبي فندرة الدموع في عيني أبي كانت كندرة اللآليء في منجمين من الفحم أسودان في صحراء بيضاء وقت الشفق ، ثم رحل هذا الزائر وغاب وطال غيابه وظننته لم يأت بل ظننته وهمًا مثل ما ألقاه في نفسي من أثر حتى جاء يوم خرجت فيه لصلاة الفجر ، وكان لأبي صديقًا يبدو أنه كان عزيزًا عليه مقربًا لديه فلم أعرف ذلك حتى رأيت له شاهدًا

 

 

 

 

بعدما قضيت صلاة الفجر في المسجد وكانت صفوف صلاة الفجر فيه لا تزيد على واحد أو اثنين و تلك القلة في عدد الصفوف لم تكن ترجع إلى اتساع المسجد بل كانت من قلة المصلين في وقت الفجر طوال العام فيما عدا رمضان والعيدين ، كان المسجد يمتلىء عن آخره في تلك المواسم المباركة ذات النفحات والروائح العطرة التي يذهب أثرها كلما مر الزمان لتصبح كغيرها من سائر الأيام لكنني كنت أنقب عن هذه المشاعر الروحانية بلمسة صوفية لم أكن أتعمدها ولم أعرف لها إسمًا لكنني أحببت أثرها في نفسي فكنت أتحين الفرصة كي أنهل من هذا النبع الروحاني الصافي ، أتلفت يمنة و يسرة حتى يثبت بصري و يشخص في طريق من نور الله أحببت المسير فيه ،

 

 

 

فخرجت من المسجد و بينما أنا عائد إلى منزلي كان يسير بجانبي أحد الجيران فسلم عليَّ و سألني عن أبي فقلت : إنه بخير ، ثم سألني : هل علم بوفاة الأستاذ ( كمال ) صديقه ، فأشرت مستفهمًا ولم أتذكر صورة الفقيد ولم يتضح له وجه في مخيلتي رغم أنني كنت أعرف أصدقاء أبي جميعهم لكني لا أحصي الأسماء في ذهني و لا أحب حفظها ، كنت أعرف كل واحد فيهم بشكله و طبعه و ربما كنت على علم بمهنته ثم في آخر الأمر أجدني مضطرًا إلى حفظ إسمه كي أناديه بعمي فلان و كي أستطيع أن أخبر أبي إن سأل أحدهم عنه في غيابه فمن العسير كلما سأل أحدهم عنه أن أجلس بين يديه ممثلا أشكالهم و أصواتهم ، أقصد بذلك أنه من العسير على أبي أن يتحمل تقليدي لهم و ليس من العسير عليّ أن أقلدهم فالتقليد لدي كان من هواياتي المفضلة ،

 

 

 

 

 

 

كنت أقلد الناس ، أقلد أقاربي و أقلد أساتذتي و أقلد الممثلين الذين أشاهدهم في الأفلام و المسلسلات حتى وصل بي الأمر أنني كنت أقلد الباعة الجائلين النازلين ببلدتنا ابتغاء رزقهم فلا زلت أذكرني و أنا أقلد نداء بائع التوابل الراكب على عربته الصغيرة ، و لأنني كنت طفلا صغير الإدراك كطبيعة الأطفال كنت أحرف ما أسمع دائمًا ؛ و ليس بالضرورة أن يعي الطفل كل ما يقول ، فكنت أستحضر صوت البائع فتضحك أسرتي و كل من يسمعني و كذلك كنت أقلد تلك المرأة العجوز بائعة الحصير بمشيتها الواهنة و ظهرها المنحني و صوتها العتيق ، كنت غلاما أرعنا يتعب من حوله و بخاصة العجائز ؛ كنت أتفنن في مشاكستهن ، و قد حان وقت اللهو و التقليد ،

 

 

 

 

 

و هذه عجوز أخرى تسكن حارتنا ، تشاهد الأحداث من شرفتها الخشبية المتهالكة التي طال عليها الأمد فشاخت كصاحبتها عمتي
” علية ” التي طالما أرعبتني بنظرتها المخيفة بعينيها الفضيتان الجاحظتان إحداهما تكون نصف مغلقة إذا واجهت الضوء ، و صوتها المتحشرج الخفيض ، و رأسها الأشيب من تحت عصابة سوادء تلتف حوله يتدلى من العُصابة ذيل يصل إلى أسفل رقبتها من الخلف ، و بشرة تميل إلى السمرة تغطيها عباءة زرقاء نادرًا ما كانت تبدلها بمثلها أو بما يشبهها ، و رغم الرعب الذي كان ينتابني عند رؤيتها كنت أصر على مشاكستها بقصد و بدون قصد ، مستخدمًا عبارات الباعة التي أحفظها و أحرفها بمنطق الأطفال ، فكنت أضع يدي فوق رأسي مشبكًا بين أصابعي متخيلًا أنني أحمل الحصير ثم أطوف الحارة جيئة و ذهابًا متغنيًا بنداء بائعة الحصير فقد أسرني صوتها الممزوج بالكد و التعب يحمل رائحة الطين و لونه يلخص الريف بآلامه و آماله و أصالته ، ثم أمر بجانب عمتي ” علية ” و أزعجها و أخترق خيامًا من الصمت تعودت أن تنصبها حول بيتها بكرةً و أصيلا ،

 

 

 

 

 

لذلك كله لن أقلد الفقيد حين أخبر أبي بوفاته فلا زالت صورته مشوشة في ذهني ولا زلت أستحضرها لكني أجبت الرجل أنني سوف أخبره ،

 

 

 

 

و دخلت إلى البيت ، و طرقت حجرة أبي ففتح الباب دهشًا من طرق الباب في هذا الوقت فأخبرته أن عمي ” كمال مبروك ” توفى إلى رحمة الله فوجدت الصدمة في وجهه و صوته و سؤاليه : ” من أخبرك ؟! و متى ؟!! “
و تأكدت من صدمته حينما لم يدعو له بالرحمة بيد أنني لم أدرك الأمر كما ينبغي حتى جاءت الظهيرة و كان موعد الجنازة فتبعتها حتى انتهت ثم وقفنا على القبر بضع دقائق قضيناها في الدعاء ، و قلبت بصري بين الوجوه ثم تسمرت عندما رأيت أبي و دمعة على خديه !و قد سارع إلى إزالتها هذه المرة أيضًا ،
لا ضير فقد رأيتها هذه المرة عين اليقين ،

و لكني حدقت به كثيرًا لعله ليس هو ،

 

و كيف لا أعرفه و هو أبي ؟

 

، و ربما كان هو الزائر الذي أتى على هيئته من قبل عندما رأيته يبكي جدتي لمرضها ها هو يعود من جديد و ظل ما رأيته في رأسي مستحوذًا عليّ يثير تعجبي و إعجابي ،

 

 

 

 

 

كان بكاء أبي يعد اكتشافًا بالنسبة إلي ، اكتشاف في نظري لا يقل أهمية عن اكتشاف ” كرييستوفر كولومبوس ” للقارة الأمريكية – ليست مزحة – فهناك وجه للشبه و هو أن ” كولومبوس “
انتبه إلى أرض مجهولة عند العالم و أنا انتبهت إلى حدث مجهول عند أسرتي و محيط مجتمعي الصغير ، ذلك عن شكل الشبه أما عن مضمونه و أهميته فكولومبوس اكتشف أرضًا شاسعة كبيرة و مهملة يجهل العالم ما فيها من خيرات تضيف إليه الكثير ، و أنا قد اكتشفت في أبي شعور طبيعي و غريزة إنسانية و فطرة نقية تطهر النفس و تزكي الروح و تجلي صدأ القلب و تطمئن البال و تريح الإنسان من العناء ؛ كل هذا يفعله البكاء و أكثر ،

 

 

 

 

البكاء أكبر دليل على أن الفضيلة باقية في الإنسان لم تمت ، حية في الوجدان ، البكاء دليل على أن اللين موجود في الطبع حتى و إن غلبت الغلظة ، دليل على الرحمة في القلب و إن غلبت القسوة ، دليل على الحلم في الخلق و إن غلب الغضب ، دليل على رهافة الإحساس و إن غلب الجمود ، دليل على الإيمان و إن ضعف أو قل ، البكاء دليل على حسن الظن فيما عند الله ، و التسليم بما انقضى و فات و الأمل فيما هو آت ، و الرضا بقدر الله و اليقين في قدرته ، فضل البكاء عظيم لكنه مغفول عنه يكفي أن الله اصطفى من الخلق سبعة يظلهم في ظله جعل فيهم ” رجلًا ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه “

 

 

 

 

ماذا أقول لكم عن البكاء
هو سلاح الأطفال و مخبأ الرجال ، حيلة النساء و حليف الأبرياء ، مرآة الضعفاء و وسيلة الأشقياء و خديعة الأغبياء ، تختلف أسبابه باختلاف أصحابه و اختلاف ما لديهم من أغراض ، البكاء البكاء ذلك هو و أكثر ، و أظن أن العالم يستفيد من اكتشاف حقيقة إنسانية و إيجاد أثرها أكثر من استفادته من اكتشاف قارة مهجورة ، فها أمة كانت تحتمي من ” يأجوج و مأجوج ” كانوا يمتلكون الأرض و المال لكنهم لم يمتلكوا معرفة بحقيقة الإنسان و عقله فعجزوا عن صد عدوهم و طلبوا العون من غيرهم و تلك قصة يطول فيها السمر ،

 

 

 

 

 

رحل الزائر مرة أخرى و طال غيابه و عاد أبي إلى ما كان عليه من قوة ، ولا أدري ؛ أكان يبكي في الخفاء مستترًا أم ظن البكاء خطيئة لابد أن يتوب منها ،

ثم مرض ،

 

و لم يعد أبي كما كان ، بعدما مرض أصبح يبكي كثيرا و أمسى كذلك ، و كأنه كان يدخر رصيدًا كبيرًا من البكاء تراءى له أن الوقت حان لإنفاقه ، لآليء أبي و جواهره و ثروته الضخمة منها ؛ الآن ينفقها و يغدق بها فليس هناك ما يدعو لاكتنازها ، ضاقت بها خزائن مقلتيه و ثقل عليه كتمانها ،

 

 

 

 

الآن أقول له : لا تخجل يا أبي فالبكاء نعمة حرم منها آخرون و ليس كما كنا نتعلم في الصّغر أن ” الرجال لا يبكون ، النساء تبكي و الأطفال ” الآن و بعد أن صرت رجلًا لن أعلم الصّغار كما كنا نتعلم ، سأقول لهم ” إن الرجال يبكون و هم أشد الناس حاجة إلى البكاء ”
لا تحزن يا أبي فأنت تنظر إلى حياتك كمن ينظر إلى صورة مقلوبة فيراها قبيحة، ضعها في مكانها الصحيح و انفض عنها غبار الضجر و السخط عندئذ تراها جميلة ، و لا تعد يا أبي إلى ما كنت عليه أبدا ، دع ما مضى و اضرب بعصاك حيث أنت فلا الركون إلى الماضي مجدياً و لا المستقبل مقطوعًا به إنما الحاضر هو أولى بنا و نحن أولى

به … “

 


مصطفى أحمد عبد العزيز

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى