التلاعب النفسي يقتل… لكن ببطء

بقلم: إيمان الحريري

لم يعد علم النفس حبيس القاعات الدراسية أو الكتب الأكاديمية. لقد تسلّل إلى كل زوايا حياتنا: في العلاقات الشخصية، في الإعلانات، في وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى في بيئة العمل. وهذا أمر طبيعي، بل ومطلوب، لأن فهم النفس البشرية يساهم في بناء مجتمع أكثر وعياً وتفهماً.
لكن، ماذا يحدث حين يتحوّل هذا الفهم إلى وسيلة للسيطرة؟ حين يُستعمل علم النفس لا للشفاء والدعم، بل للتلاعب والاستغلال؟

كثيرون اليوم – بحسن نية أو بسوئها – يوظفون مبادئ علم النفس لتحقيق أهداف شخصية على حساب الآخرين. بعضهم يتقن رصد الثغرات النفسية: عقدة النقص، الحاجة للتقدير، الخوف من الهجر، الشعور بالذنب…
ومن هنا تبدأ الحكايات.

ليلى، على سبيل المثال، امرأة في الثلاثين من عمرها، عاشت تجارب عاطفية فاشلة، فاصبحت تظن أن فيها “عيبًا” يجعلها غير كافية. دخلت في علاقة مع شخصٍ بدا في البداية حنونًا ومتفهمًا، لكنه كان يُتقن قراءة جراحها النفسية؛ كان يعرف متى يُظهر الاهتمام، ومتى يختفي فجأة ليتركها متوترة. كل مرة كانت تشكك في تصرفاته، كان يقلب الطاولة ويتهمها بالمبالغة والدراما.
شيئًا فشيئًا، بدأ يُفرغها من ثقتها بنفسها، ويملأها بالشك في حكمها، حتى صارت تستمد قيمتها فقط من نظرته هو.
وأخيرا حين غادر حياتها، لم تفتقده… بل فقدت ذاتها.
ما فعله ذلك الشخص لم يكن عشوائيًا، بل تلاعب نفسي محسوب، استغل فيه هشاشتها دون أن يمد لها يدًا حقيقية للدعم تحت قناع الحب.

وفي بيئة العمل، لا يختلف المشهد كثيرًا.
كريم، موظف مجتهد، لكن طيبته الزائدة وثقته السريعة بالآخرين جعلاه هدفًا سهلاً لزميل يُتقن لعبة “التحكّم من وراء الكواليس”. هذا الزميل – وليكن اسمه “ماهر” – كان يراقب جيدًا، بدأ ماهر يتقرّب بأن يطرح أسئلة بريئة، بأن يطلب مساعدات صغيرة، بأن يبوح ببعض “أسراره” لكسب ثقة كريم. ثم شيئًا فشيئًا، بدأ يستخدم كلام كريم له ضده في الاجتماعات، ليُظهره مترددًا أو غير متعاون، بينما يُقدّم نفسه دائما كالحريص على المصلحة العامة!
استغل قلق كريم من الفشل ليُربكه، واستثمر حاجته للاعتراف ليفهم دوافعه أكثر ثم يُحرّكه كما يشاء.
في النهاية، تم تهميش كريم مع انه الأجدر، وأُقصي تدريجيًا، بينما صعد ماهر بهدوء، متسلحًا بفهمه العميق لنقاط ضعف زميله… لم يُقصه المدير و لكنه ماهر الذي تلاعب به تحت قناع الزمالة.

مثل هذا النوع من التلاعب يحدث يوميًا: في العلاقات، في الصداقات، وحتى في بعض جلسات “المساعدة الذاتية” التي يدّعي أصحابها الفهم والاحتواء، بينما يُعيدون إنتاج شعور النقص في نفوس الآخرين ليبقوا تحت السيطرة.
لا أحد يُنكر أن فهم النفس يساعدنا على بناء حياة أفضل، لكنه يصبح خطرًا حين يُستخدم لتوجيه الناس دون وعيهم، أو الضغط عليهم بعبارات تبدو علمية، وهي في حقيقتها مجرد أدوات للنفوذ والسيطرة.

النتيجة؟
أفراد يشعرون بالارتباك، بالعجز، بفقدان الثقة في أنفسهم وفي من حولهم .
علاقات تُبنى على التلاعب بدل الوضوح، الاستغلال والابتزاز العاطفي والنفسي يتحوّل إلى نمط حياة.
مجتمع ينصهر من الداخل، وتسوده لغة خادعة تبدو عميقة، لكنها في جوهرها تخدم مصالح من يرددها.

أخيرا فعلينا أن نُعيد الأمور إلى نصابها، علم النفس قوة. ومن يمتلك القوة يتحمل مسؤولية، فالغرض الأسمى من علم النفس هو التحرر لا التحكّم، هو الوعي لا التنويم.
لنسأل أنفسنا دائمًا: هل نستخدم هذا العلم لنبني إنسانًا أقوى؟ أم لنُشكّله كما نريد؟
الفرق بين الأمرين… هو ما يصنع الفارق بين العلاج والاستغلال.

عن الكاتبة:
إيمان الحريري
كاتبة ومحاضرة في مجالات الصوت والأداء الإعلامي، ومؤسِّسة “Starvoice” لتدريب الموهوبين في التعليق الصوتي، والبودكاست، والإلقاء. تهتم بالعلاقة بين المبدع وجمهوره، وبأثر الكلمة والصوت في تشكيل الوعي الثقافي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى