الدكتورة ناهد الخراشي تكتب عن فلسفة السلام فى الإسلام

بقلم :د. ناهد الخراشي
الكاتبة والمحاضرة في العلوم الانسانية
نائب عميد كلية التربية للشئون الأكاديمية
ورئيس قسمي علم النفس والاجتماع
جامعة باشن العالمية
يرتكز جوهر الإسلام علي حقيقة واضحة هي أنه دين سلام وليس دين استسلام فهو يسلك سبيله إلي السلام من مركز القوة، وبدون القوة يكون الطريق إلي السلام طريقا إلي الاستسلام الذي به تضيع الحقوق وتنتهك الحرمات ، في ضوء هذه النظرة المتكاملة تحققت للإسلام المرونة والحيوية والقدرة علي التلاؤم مع كل زمان ومكان، ومع كل ظروف الحياة المتغيرة.
وإذا تتبعنا حياة الرسول صلي الله عليه وسلم قبل الهجرة وبعدها في مكة والمدينة رأينا بوضوح تلك النظرة المتكاملة الواقعية الذكية إلي السلام، والمتتبع لآيات القرآن الكريم يري بوضوح تعميق تلك النظرة في نفوس المسلمين كجزء من عقيدة سمحة تدعو إلي السلام عن حب له وثقة به ولا تدعو إليه عن خوف من الحرب وما تجره علي المتحاربين من ويلات
والإسلام في جميع مواقفه لا يتخلي عن أخلاقياته التي يحرص علي دعمها في نفوس أتباعه والمؤمنين به ومن ثم يكون العدوان منهيا عنه فيها لأن من مبادئه الأولي أن يحقق السلام ويخفف حدة التوتر كجزء من عقيدته السمحة عن حب له ورغبة فيه، وهذا لا يمنع من أن يكون المسلم دائما علي أهبة الاستعداد لمواجهة أي موقف بالتفكير والتدبير والتدريب، ولكن ذلك كله ليس أكثر من جزء صغير من العدة، والجزء الأكبر منها هو إيمانه بربه واعتماده عليه، وبدون هذا الإعتماد علي ربه يكون السلاح في يده عديم القيمة قليل الحيلة.
ويسعي الإسلام دائما في تشريعه الي أن يعيش الإنسان مطمئنا بسلام لا يعكر صفو حياته أي اضطراب او خلل، باعتباره دين الفطرة الذي توافق تشريعاته النفس البشرية السوية التي تميل إلي السلم ، وتسعي إليه وتعمل علي استمراره.
وتقوم قاعدة الإسلام علي حماية الإنسان من الفزع والخوف والقلق والاضطراب والحرص علي حمايته والحفاظ علي حقوقه المشروعة في الأمن والسكينة والسلام والاطمئنان لذلك كان السلام ضرورة حية للفرد والمجتمع كي يستقر ويتماسك ودليل يقود الإنسان إلي العطاء الحضاري الذي يحافظ علي مقومات الأمة من التحديات والتي تتمثل في القيم الإسلامية والروحية.
غرس الإسلام بذرة السلام في نفوس الأفراد ، السلام الإيجابي الذي يرفع الحياة ويرقيها لا السلام السلبي الذي يرضي بكل شيء ويدع المباديء العليا تهدم في سبيل العافية والسلامة.. السلام النابع من التناسق والتوافق المؤلف من الطلاقة والنظام، الناشيء من اطلاق القوي والطاقات الصالحة ومن تهذيب النزوات والنزعات لا من الكبت والتنويم والجمود.
السلام الذي يعترف للفرد بوجوده ونوازعه وأشواقه ويعترف في الوقت ذاته بالجماعة ومصالحها وأهدافها وبالإنسانية وحاجاتها وأشواقها ، وبالدين والخلق والمثل .. كلها في توافق وإتساق.
وكذلك يتم التناسق بين المحافظة علي الحياة وترقية الحياة .. يتم هذا التناسق في ضمير الفرد تبعا لعقيدته كما يتم في محيط الجماعة تبعا لسلوكه فيجد الفرد نفسه في سلام داخلي مع ضميره وفي سلام خارجي مع سواه.
وتتصل فكرة السلام في الإسلام اتصالا وثيقا بفكرته الكلية عن الكون والحياة والإنسان .. هذه الفكرة التي ترجع إليها نظمه وقواعده جميعا، وتلتقي عندها تشريعاته وتوجيهاته .. وتجتمع إليها شرائعه وشعائره.
ومن ثمرات السلام الأخوة حيث ركز الإسلام قرآنا وسنة علي مفهوم الأخوة التي يجب أن تشيع في المجتمع الإسلامي فقال تعالي: ” انما المؤمنون اأخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون” (الحجرات: 10).
وجعل العقيدة الإسلامية أساسا لهذا الإخاء فقال تعالي:
“واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا”(أل عمران: 103)
وهكذا نفي القرآن العداوة التي ترتبت عنها حروب وشحناء وبغضاء، وأقر مكانها أخوة تتسم بحب الخير :وجعلت الإنسان يتحرر من الاهتمام بذاته ونفسه إلي الانفتاح علي عالم المسلمين ويقوي احساسه بالانتماء إلي أمتهم والتمسك بجماعتهم وذلك بغرس القيم الإسلامية في نفوس المسلمين وترجمتها في الواقع إلي سلوكيات أخلاقية متميزة تشمل الإحسان والتعاون والمواساة وحب الخير لبني البشر، وإرساء نظام اجتماعي يجنح إلي تجنيب الأمة الإسلامية الخلاف والعداوة.
لذا أوجب الإسلام علي كل مسلم التمسك بدعائم الأخوة الدينية بالتعاون، والإيثار، والتكافل الإجتماعي وتجنب كل ما يحول دون تطبيق هذه القيم، وما يسيء إلي العلاقات الفردية والجماعية لتحقيق السلام والأمن ، فرسوخ هذه القيم في عقيدة المؤمن ينبع من إيمانه بربه وخالقه حيث أن الإيمان يجعل بين المؤمنين أخوة أقوي من أخوة النسب، والإخاء في الإسلام يعني بذل صادق المودة والتناصر بالحق، والمشاركة في الأتراح والأفراح والتكافل علي أحداث الحياة.
إن خطوط المنهج القرآنى فى بناء الفرد والجماعة لا يتصل بأى معنى من معانى العدوان أوالإرهاب أو التشدد فى العقيدة، بل هو فى كل سطوره يفيض رحمة ولطفا وحبا وفضيلة واستقامة وعدلا وسلاما الذي هو مطلب لجميع خلق الله.
إن وحدة الأمة الاسلامية ترعاها فى المجتمع الإسلامى فضيلة الرحمة والود والعطف، ويحميها العدل والسلام والجهر بالحق والاتحاد ونبذ الخلاف:
( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)
ونهى عن التفرقة والاختلاف فقال تعالى:
( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات)
(أل عمران: 105)
فهذه القواعد والمبادىء الأخلاقية اتاحت للمسلمين التعارف والتواصل والاتحاد رغم اختلاف أجناسهم. فأصبحوا أمة واحدة تتوافر فيها كل صور المساواة، والعدل وانتقت الفروق فى الحقوق والواجبات وهذا ما أكده التاريخ حيث دخل فى الإسلام وفود من مختلف أصناف العرب يجمعهم إحساس واحد وتوافق فى الشعور ووحدة فى المبدأ والمصير.
وهكذا يتمكن التشريع الإسلامى من غرس قيم الأخوة وقيم الفضائل الخلقية فى نفوس المسلمين التى إذا تحلى بها الفرد حل الأمن والسلام الذي دعا إليه الإسلام قرآنا وسنة في آيات بينات وأحاديث صحيحة.
ولا شك أن مرتكزات الإسلام لبناء الفرد والجماعة علي أساس الأخوة كانت هي اللبنة الأساسية لتحقيق سلام اجتماعي يسود المجتمع ويحقق الأمن لكل فرد.
ولقد ارتكز هدف الإسلام علي تحقيق العدالة في الأرض قاطبة، وإقامة القسط بين البشر عامة ، العدالة بكل أنواعها : العدالة الإجتماعية، والعدالة القانونية، والعدالة الدولية.
مما يحقق السلام والأمان في المجتمع وهذا هو قانون السلام في الإسلام.
فمن بغي وظلم وابتعد عن تحقيق العدل فقد خالف كلمة الله وعلي المسلمين أن يقاتلوا لإعلاء كلمة الله حتي وان اضطر الامر لمقاتلة المسلمين الباغين للرجوع الي امر الله.
فالعدل المطلق ، ورد البغي بالعدوان هو كلمة الله التي يجب ان تعلو في كل مكان وزمان:
” وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحو بينهما، فان بغت إحداهما
علي الأخري ، فقاتلوا التي تبغي حتي تفيء إلي أمر الله ، فإن فاءت
فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا، فان الله يحب المقسطين”(الحجرات:9)
وإذا كان الإسلام يدعو المسلمين ان يقاتلوا المسلمين لرد البغي وتحقيق القسط، فهو يدعوهم ايضا إلي دفع الظلم كافة، وإلي دفع الظلم عن أنفسهم وإلي دفعه عن كل مظلوم لا يملك له دفعا علي ألا يعتدوا ولا يبغوا علي أحد حتي في رد العدوان.
لذا كان إعداد العدة ، وتوفير القوة ضرورة من ضرورات الفكرة الإسلامية لتحقيق السلام: إن الإسلام هو آخر رسالة السماء إلي الأرض وهو جماع العقيدة التي ارادها الله للبشر ، وهو ” الدين ” الذي جاء بقواعده الأساسية كل رسول : ” أن الدين عند الله الإسلام”(آل عمران : 19)
فكل نبي جاء ليأمر الناس بعبادة الله الواحد دون شريك ، والإسلام له وحده ثم جاء محمد عليه الصلاة والسلام بهذا الدين ” مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه “(المائدة:48)
فاعداد القوة واجب ليكون في هذه الارض سلطة عليا ترد الشاردين عن الحق إليه، وتوقف الطغاة عن البغي والعدوان، وتحفظ علي الآمنين أمنهم وسلامتهم، وتعز كلمة الله.
وحين تتحقق الحرية والعدالة فلا يبغي بعض الناس علي بعض، ولا يستذل بعضهم رقاب بعض، وحين يتحقق الأمن للضعفاء الذين لا يملكون عن أنفسهم دفاعا ، ويكف الباغي عن بغيه ويجنح إلي السلم .. حينئذ يحرم الإسلام الحرب تحريما ويدعو إلي السلم فورا:
” وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل علي الله”(الأنفال:61).
إذن يتضح لنا أن فلسفة السلام في الإسلام ترتكز علي أن السلم هو القاعدة والمنظومة الرئيسية التي جعلها الله في الوجود. والحرب ضرورة لتحقيق خير البشرية لا خير أمة ، ولا خير جنس أو فرد فقط وإنما ضرورة لتحقيق المثل الإنسانية العليا التي جعلها الله غاية للحياة الدنيا ، ضرورة لتأمين الناس من الضغط ، وتأمينهم من الخوف أو الظلم ، وتأمينهم من الضر ، ضرورة هامة لتحقيق العدل المطلق في الأرض فتصبح إذن كلمة الله هي العليا.
نحن في أشد الحاجة الآن أن نتحد ونتعاون لتحقيق السلام الإلهي المهيمن المؤمن الذي يضمن لهذه الأمة حقها ويحفظ لها كرامتها وحريتها. إن الأمة المجزأة المفككة التي تسعي إلي تحقيق المكسب الذاتي وتضحي بالصالح العام وحقوق رعاياها لن تصنع سلاما وأمنا، بل تصنع حروبا وفسادا وهلاكا ، وفي النهاية فناءا محققا .. فالآمة الواحدة هي أمة السلام والهيمنة والخير والقداسة والحضارة ولهذا قرن الله سبحانه وتعالي بين هذه الامة وبين عبادته كما في قوله تعالي: ” إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون”(الأنبياء:92)
إذن كانت هناك الدعوة لأن نكون أمة واحدة تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر, وتتعاون علي البر والتقوي ولن يتحقق الأمن والأمان للفرد ما لم ينعم الجميع بالأمن والأمان والسلام علي الأرض يجب أن يكون مرتبطا ومتواصلا مع السلام في السماء , ولن يتحقق السلام الا بالارتباط والانتماء لدين الله الواحد وتحقيق سبل السلام في القرآن والسنة.