هناك فارق كبير بين أن تكون ناشط سياسي منخرط في الكتابة علي تويتر والفيس بوك للدعوة إلي التظاهر أو المشاركة في المظاهرات والوقفات الإحتجاحية وبين أن تكون مفكرا سياسيا أو محلل استراتيجي بل والأكثر من ذلك أن يصور لك الطموح وعدد المتابعين لحسابك الشخصي أنك صاحب نظرية سياسية وتقوم بالتنظير لها والعمل علي تحويلها لواقع علي الأرض وتطالب الناس بالتعاطي معها.
لقد أصيب الناشط (وائل غنيم) بمرض تضخم الذات إلي جانب إصابته بمرض البارانويا السياسية والإنفصال التام عن الواقع الذي يجري علي الأرض.
فبعد مهاجمته وسخريته من حركة حماس والفصائل المقاومة للعدوان الصهيوني علي غزة خرج علينا بفكرة تكوين (كتائب الشهيد محمد أنور السادات) علي غرار (كتائب عز الدين القسام )الجناح العسكري لحركة حماس في إشارة واضحة لإستلهام تجربة الزعيم السادات للسعي نحو السلام والتي إنتهت بتوقيع معاهدة السلام بين مصر واسرائيل والتي أتاحت لمصر إسترداد سيناء كاملة بعد إحتلالها من إسرائيل عام 1967.
والحقيقة أن هذا الحديث عن (كتائب السادات) في هذا التوقيت بالذات هو المراهقة السياسية في أوضح صورها.
فأولا وضع كتائب الشهيد محمد أنور السادات في مواجهة كتائب الشهيد عز الدين القسام يمثل بداية نوع من المكايدة علي غرار مانشهده من مكايدات بين مشجعي فريقي الأهلي والزمالك علي صفحات التواصل الإجتماعي وإن كانت هذه المكايدات مرفوضة في المجال الرياضي إلا أنها لها مبرراتها من المشجعين المتعصبين لكل فريق.
أما في المجال السياسي وخاصة (الوضع السياسي للصراع العربي الإسرائيلي المعقد منذ عقود طويلة) فلا مجال للمكايدات والمزايدات والإجتهادات بأزرار المحمول علي صفحات الفيس بوك وتويتر.
السياسة هي قراءة جيدة للتاريخ وقراءة جيدة للجغرافيا ومتابعة جيدة لما يجري علي الأرض من وقائع وأحداث وإسقاط كل تلك المعطيات علي قرارات ومواقف الدول المعلنة وغير المعلنة (فهناك الكثير من الخفايا داخل الكواليس والغرف المغلقة) ولا أكون متجنيا علي هذا الوائل غنيم إذا أقررت أنه يجهل كل هذه المعطيات ولا يدري منها غير أسماء (السادات وحماس والقسام ) وأنه حتي لا يري الواقع ولم يقرأ التاريخ.
فبالنسبة لتجربة الزعيم الراحل محمد أنور السادات في السلام فعند وضعها في إطارها الزمني وقتها يتضح أن أمريكا وإسرائيل كانت لديهما الرغبة في السلام مع مصر أكبر من رغبة السادات نفسه فبالنسبة لإسرائيل كان السلام مع مصر راحة لها من مواجهة جيش هو ترتيبه الجيش الأول والأقوي في المنطقة العربية وقد خبرته إسرائيل جيدا في حرب أكتوبر عام 1973 وأن إسرائيل وإن تتنازل عن سيناء فهي تتمتع بالجولان والضفة الغربية وغزة ويمكن لها أن تتوسع مستقبلا في لبنان (وهو ماحدث بالفعل في غزو اسرائيل للبنان عام 1982) أما أمريكا فكانت رغبتها في السلام بين مصر وإسرائيل تجهيز عدو جديد للعرب واستبداله مع إسرائيل وهذا العدو هو إيران التي مثلت هاجس مؤرق لأمريكا بعد ثورة الخوميني والإطاحة بحكم الشاه الحليف القوي لأمريكا في الشرق الأوسط فأرادت أمريكا تجميد الصراع بين العرب واسرائيل عن طريق اتفافية السلام المصرية الإسرائيلية والتفرغ لمواجهة إيران مع حشد أصدقاءها من الدول العربية لمواجهة الخطر الإيراني وهو ماتحقق بالفعل في الحرب العراقية الإيرانية (1980 -1988) .
وخلاصة هذا العرض الموجز أن تجربة السادات كانت ناجحة (سواء اتفقنا أو اختلفنا معها) لتوافر الظروف السياسية الإقليمية والدولية لنجاحها وهي إن كانت قابلة للتكرار (وهذا أمر طبيعي في السياسة) فيجب أن تتكرر بظروف ووقائع علي الأرض تساعد في نجاحها.
وهذه الظروف والوقائع غائبة عن الواقع اليوم وغائبة بالتأكيد عن ذهن وائل غنيم الذي يتحدث عن تجربة السادات بينما هناك علي الأرض حرب دائرة علي قطاع غزة بالألة العسكرية الإسرائيلية علي الأرض وبأساطيل أمريكا وبريطانيا في البحرين المتوسط والأحمر وبتأييد مطلق لإسرائيل من أمريكا وحلفاءها الأوربيين بصورة غير مسبوقة في مواجهات سابقة
وتقف فصائل المقاومة وحدها (تلك التي يسخر منها وائل غنيم) في مواجهة عدوان الجيش الصهيوني والذي يتم تصنيفه علي أنه الجيش الرابع عالميا وهذه المقاومة التي تحظي بدعم سياسي ضئيل جدا (اللهم إلا إيران وتركيا وحزب الله وجماعة الحوثي) مازالت صامدة ومتشبثة بأرضها ومتماسكة ومازالت تمطر مدن إسرائيل بالصواريخ لتثبت أنها علي قيد الحياة العسكرية ولم تمت.
ولا أدري علي وجه اليقين إذا كان وائل غنيم وأمثاله من ناشطي السوشيال ميديا والكافيهات يعلمون أو لا يعلمون أن هناك حرب دبلوماسية تجري في الكواليس لا تقل بل تزيد شراسة عن الحرب العسكرية الدائرة علي الأرض وهو الأحاديث والتصريحات المعلنة من الرئيس الأمريكي جو بايدن وإدارته عن تهجير أهل قطاع غزة لسيناء وتهجير أهالي الضفة الغربية للأردن وأن هناك ضغوطا تمارسها الإدارة الأمريكية علي قادة الدول العربية للقبول بتصفية القضية الفلسطينية والقبول بفكرة التهجير القسري للفلسطينيين وحتي الأن تتعامل أمريكا بسياسة الجزرة وإغراء القادة بتدفق الأموال والإستثمارات وان كنت لا أستبعد أن تلجأ قريبا لسياسة العصا في حال استمرار القادة العرب في رفض التهجير وتصفية القضية الفلسطينية.
وأظن أن واقع عسكري وواقع سياسي كمثل هذا الواقع الراهن لا يحتمل المكايدة ولا المزايدة من المراهقين السياسيين .
فلتختلف مع حماس وفصائل المقاومة كما شئت فلا أحد يطلب منك ومن مثقفي وسط البلد ومناضلي السوشيال ميديا أن تؤيدونهم أو أن تحملوا السلاح وتقاتلون بجانبهم ولا حتي أن تدعوا لهم واسخروا منهم كما شئتم أما أن تسمون هرطقاتكم ومنشوراتكم علي السوشيال ميديا بأنها تعاطي مع الأحداث السياسية (التي تجاوزت مدارككم بمئات السنين الضوئية) وتتحدثون عن إحياء تجربة سلام في واقع مشحون بحرب ربما تنفجر في أي لحظة إلي حرب إقليمية شاملة فهذا هو المعني الحقيقي لمصطلح المراهقة السياسية