(وعي القصيدة،جرح السؤال في كشف غمة مستوى الوعي الإجتماعي للنص -الشعري”منفاي قصيدة”)
لن يكون هذا النص المشرئب إلا نصاً عاقلاً بذاته،انفلت من زمنه الماضي القريب،
ليستوي بعدته وخصائصه الفنية البانية في زمنه الحاضر،لذلك دقت الشاعرة إسفين
المفارقات بين الزمن الماضي، زمن مقدر على شيء من الفرح والحلم،والزمن الحاضر زمن الوجع والأسى والحسرات،تشيح الشاعرة بلحظها عن ماض هو أقرب
للإستئناس بالحلم واليقين،لتستقر في أتون حاضر جريح كسيح،لن يمسح دمعه إلا حبر الشاعرة القمر المضيء،إنه حاضرها الآسي،هكذا عاشت الكاتبة تنازع الرغبة والإرادة بينها وبين النص/القصيدة؛نص يتغيأ قراءة ذاته بمستوى تفاعل وتعقيدات
حاضره،وشاعرة تقرأ وضع النص/القصيدة،بمفردات حاضر لحظاته الموجعة المتوترة والقلقة،ولا انفكاك مع النص إلا بحجة صاحبته شاهدة عيان،التي صيرت حركة أفعال
النص،أفعالا مضارعة ناطقة بزمن حاضرها الملتهب…تسدل..تتكور..تشيح..أشعل..
يطلع…أرش…أرعف…يسيل..يغمر…ينجلي..فيذهلني..فيورق… أنضج..تتشهاه…
ينوسون…يمرون…أهز…أرفع…تستوي…أستطيع…أنام…فهل هاتان الإرادتان هما
إرادة الشاعرة وإرادة النص متجاورتان؟..أم هو النص قد تشكل وفق إرادة الشاعرة
التي اختارت القصيدة منفى،وأعلنت العصيان في مقل اللغة؟
ثمة أجوبة مضمرة في جوف الأسئلة القابلة للتشظي،حينما تعلن الأجوبة بفم النص،
أن القصيدة اكتمل زاد وعتاد تألقها لتكون مستقلة بذاتها، محددة مساحة فنية عضوية
بينها وبين الشاعرة…فيذهلني حضور القصيدة…ندية كالعشب….كآلهة الحب…
فيورق في رئتي حريق…من اللهب إلى اللهب….حيث القصيدة شبت بجسد حي
مفعم،جسد يشي بنفس مفارقات حاضر لايعكس صورة ماض كان قرير العين بشيء من الفرح،وماض قريب نأى بنفسه عن صرير باب مرارة حاضر عميق الجراحات، فقراؤه ينوسون على أرصفة بعيدة…يمرون كحزن المساء…مثقلين بالهزيمة….
خاوين من الحياة..زرابي جوعهم مفروشة،أرصفتهم بعيدة مبثوثة بالفواجع والظلم وقلة ذات اليد والحيرة..وشبت القصيدة بروح نصها المكلل بتوثيق وتأريخ حال مدن،
هي من أسدلت ستائر الظلام على فؤاد الشاعرة….حين تسدل المدن ستائر الظلام
….في فم الشريان…..ظلام الحزن والأسى والحسرة وسطوة العتمة،في كنفها تكورت دمعة،لم تكن سوى دمعة الكاتبة،حيث النص وثق تفاصيل جرح بليغ،ظل أثره
ساريا في الوجدان يداري الحزن،وينفرط له عقد الأغنيات وهي تشيح بوجهها عن
فؤاد الشاعرة…تتكور في العتمة دمعة…وتشيح بوجهها الأغنيات…حيث دلالة لفظ
“تتكور”في الصياغة اللغوية للنص،هي بحق إضاءة بيانية وخصيصة فنية،تكشف حجم
الحزن العميق المنضاف لأحزان متراكمة،وقد ذهبت الشاعرة عكس اللغة المعتادة،
باجتراحها لها، وإعطائها بعدا دلاليا أكثر دقة في التوصيف والحمولة البيانية،للتدليل على الأسى المركب والحزن البليغ،ونأت الشاعرة عن توظيف…تسيل في العتمة دمعة…بل تقصدت لفظ”تتكور”،لفظ محمول على معناه الدال والباني لمتواليات حالات الأسى والحسرات،يستعصي فيها البكاء وتفقد فيها المآقي سيلان الدمع،هي
دمعة في العتمة تتكور،لتتحجر في المآقي،ففي حزن الشاعرة الآسي لامعنى لمعة جارية،لامعنى لبكاء أدرف دمعا سائلا،ولا صدى لأغنيات.قلب منفرط وذاكرة محجمة عن اشتهاء الفرح،دمعة تتكور في العتمة معسرة في المقلة والفؤاد….
إنما الشاعرة بنت لنفسها جسر التجاوز وخط الإختراق،لتعبر بسلاح الكلمة/الموقف،
بسنا إبداع بتشكيل أدبي ملتزم،سديم العتمة وبهيم الحزن والأسى،بلغة الإختراق الفني والدلالي،بلغة تكسير بنية ألفة اللفظ والمعنى،هذا الإختراق هو في حد ذاته آختبار للنص…فأشعل حبري قمرا…يطلع من بين غمام…أرش البياض..وأرعف…
بهذا الإحتراق البديع والتكسير المنتفض،تكون الشاعرة قد وضعت المتلقي والناقد
على حافة التأويل،مجبرة إياهما على إعادة انتاج التأويل والإفتراض اللازمين ،وفق مايشتهي النص فنيا دلاليا وأدبيا وإبداعيا،بجملة صور شعرية مزهرة مكتملة اللمعان
تشد المتلقي إليها بالتماعة سؤال تلو سؤال،بسيرورة آفتراض وافتراض،بمحاولة القبض على الصورة الفنية الرافلة في التأمل والدهشة…فأشعل حبري قمرا…
يطلع من بين غمام…حيث هدف النص،هو تحقيق لذته اللغويةالبيانية،بمبنى كلماته
سكرات معمدة بالأسى،يراعها مغمس بحبر الحياة،ثم وفق ماتشتهيه الأديبة من إنارة
خلفياتها الفكرية والأدبية المتمثلة في تجسيد حوافز الوعي الإجتماعي،والرفع من
مستوى ايقاعه بأهمية الحفر بالكلمة/الكتابة،المكان والذات والآخر،الزمان والزمن
….أرش البياض…وأرعف…كما لوكان جرحي الأخير…كما لوكنت ألاقي موتي…
…حرفا حرفا….ومن بناء موقف فكري وجودي مؤسس على انتماء اجتماعي،ضمن
نسق الوعي به،تمثلا ودفاعا عن الفئة الإجتماعية المستهدفة من لدن الشاعرة….. أنضج كروما وخبزا….تتشهاه أعين الفقراء…وتتشبت الكاتبة بدفاعها المنتمي
لموقفها الفكري الإنساني البطولي حتى الموت،بروح تخلقت في تربة وطنية صادقة
…أهز رخام صدورهم…هذا جسدي كلوه…وهذا دمي آشربوه…ديدن الشاعرة،
هو إعادة تشكيل وعي اجتماعيجريء وقادر،والقصيدة هي من تعيد هذا الأمل الواعد ذلك بإشعال الحبر قمرا،فالكلمة/القصيدة هي فسحة ومتنفس الوعي واليقظة، وعنوان العزيمة والإصرار…أرفع كأس الخطى المهدودة…آشربوا نخب المنافي…
..حيوا الألم المصفى….إنه دم الشاعرة الفائر الثائر المتسرب،المتسربل بالقلق والعزم، سائلا مخترقا متحفزا….يسيل دمي….يغمر البيوت والشوارع…والمدن..
حلما ينجلي..فيذهلني حضور القصيدة…هذا الدم يحمل بذور الوعي بذات الشاعرة
التي لاتفارقها هموم المكان/الزمن والناس، دم الجرح/الكتابة،دم الحزن/العشب،دم
الرش/الحرقة،دم الإزهار/حريق من اللهب،دم يتجلى حضورا للقصيدة،ندية كالعشب
… كالهة الحب…..بهذا التوظيف المجازي والإستعاري للنص،ذهبت الشاعرة بعيدا
في تأليف منظومة لفظية بيانية جمالية بإيقاع موسيقي فني مختلف،تجسد من خلاله
علاقتها الوجودية بالدم……أرش البياض حرقة…وأرعف…تستنطق المضمر من الأحزان المستمدة من حزن
جماعي ،تفتش عن خباياه برفع سقف الوعي المكين المتمكن من هذه الأحزان…
آشربوا نخب المنافي…حيوا الألم المصفى …فقد ضاقت الأرض بالحمام….
هكذا نستخلص أن للنص مفتاح سوى القصيدة مجرة إضاءات لفظية وخزان معاني سابحة في فلكها،مفتاح النص تجلى في ..فأشعل حبري قمرا…يطلع من بين غمام..
حيث يدفعنا باستمرار لتجديد النظر في بنيان التأويل والإفتراض الموضوعي اللازم،
لنفترض سؤالا ملحا،لماذا لم تقل الشاعرة…فأشعل حبري جمرا….حيث الجمر مادة ملتهبة يتعلق بها الإشتعال والحريق،ولنفترض الجواب بأن الجمر يشتد حريقه ويلتهب اشتعالا الا أنه يخبو ويستحيل رمادا..الشاعرة سوت القصيدة روحا وجسدا..
بقولها…فأشعل حبري قمرا….القمر جسم حي نابض وحركة مستمرة ممتدة في الزمان سامية في المكان،لتتجلى المفارقة كالتالي :الحبر/الجمر،يخبو ويستحيل رمادا.الحبر/القمر،حركة نابضة ممتدة في الزمان ملهمة بالضياء،مشتعلة نورا تطلع من بين غمام ، فالحبر مشتعل كالقمر في ضيائه بفعل فاعل ألا وهو الشاعرة…الحبر في اشتعاله من وجهة نظر النص إضاءة تاريخية مستمرة لحركة اجتماعية تتجلى وعيا اجتماعيا مستندا لرؤية اجتماعية ملتزمة جسورة،هي رؤية الكاتبة نفسها،التي تصرآملة على تجاوز أعطاب الألم الكسير والخطى المهدودة وفواجع الموت الرابض في كل الزوايا….أرفع كأس الخطى المهدودة…وآشربوا نخب المنافي….حيوا الألم المصفى..فقد ضاقت الأرض بالحمام…ولن تستوى القصيدة إلا في وعيها الإجتماعي الملتزم المتعال المحفز المقدام،حينها تستطيع الشاعرة أن تنام قريرة العين في منفى قصيدتها،لتبني بكل قصيدة شعر بلد،كما صدح الشاعر الفلسطيني “سعد الدين شاهين”ذات مرة…لأبني بكل قصيدة شعر بلد.
انتهى…