من دروس (غزّة ) بعد “طوفان الأقصى

وكالة أنباء آسيا

من دروس (غزّة ) بعد “طوفان الأقصى” ..
د.علي أحمد جديد
إنّ إجراء أي تقديرات أوّلية لمجريات الأمور التي أطلقها “طوفان الأقصى” قد تكون مهمة ، لأن القراءة الجيوسياسية للمواجهة في (غزّة) تجعل الصراع العربي – الإسرائيلي جزءاً لا يتجزّأ من الصراع الكوني القائم بين كتلة الدول الرافضة للهيمنة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية مع الغرب الإستعماري إجمالاً . وقد سبق أن صرّح الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين) بأن المجازر التي يرتكبها الكيان في (غزّة) جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب غير مقبولة ، وأن القوى الداعمة للكيان في تلك المجزرة هي نفسها التي تقاتلها روسيا في أوكرانيا . فالصراع في فلسطين والصراع في أوكرانيا والحرب الكونية على سورية ، هي أشكال من ذلك الصراع الكوني ، وبالتالي سيعزّز التغيير في موازين القوّة في العالم . لأن هذه الساحات المشتعلة تعكس صراعاً شرساً بين موازين القوّة ، حيث الغرب الاستعماري الذي يحاول إنكار انكسار الميزان لصالح الدول في الجنوب العالمي ومعه كل من الصين وروسيا وإيران . ولأن مسار الصراع في فلسطين هو جزء من ذلك الصراع الكوني ، وإن كان العامل الفلسطيني يساهم بشكل مباشر في تغيير موازين القوة أسوة بالصمود في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن في خلق معادلات جيوسياسية لا مكان فيها للغرب الاستعماري بكل صوره السابقة والحديثة .
إن الأساطيل الغربية وبصورة خاصة المُدمِّرات والغواصات الأميركية التي توجّهت إلى شرق المتوسط قد لا يقتصر هدفها على حماية الكيان الإسرائيلي كقلعة استعمارية متقدمة في الشرق الأوسط ، أو منع توسيع رقعة الحرب ، كما تدّعي الإدارة الأميركية ، بل قد تكون محاولة لاغتنام فرصة من وجهة نظر المحافظين الجدد للانقضاض على لبنان ثم سورية ثم الجمهورية الإسلامية في إيران والهيمنة على اليمن بعد التخلص من الحوثيين فيه واكتمال السيطرة على كل المضائق البحرية (هرمز وباب المندب أسوة بقناة السويس) . بل هي تجسيد لحالة إنكار التغيير الفعلي الذي يحدث في موازين القوّة ، حتى أصبح عرض الأساطيل عملية استعراضية إعلامية تحاول إخفاء العجز العسكري وغياب الإرادة . والتقديرات العسكرية تفيد بأن عدد القطع البحرية قد وصل إلى ما يفوق السبعين قطعة أمريكية وأطلسية . فهل كان كل ذلك من أجل حماية الكيان الإسرائيلي فقط ؟!!..
وكذلك ، فإن التدخّل الأمريكي المباشر في (غزّة) عبر قوات (المارينز وقوّات دلتا الخاصة) قد أجبر القيادات الأميركية على مراجعة مشاريعها بعد ارتفاع الخسائر البشرية والمادية لقوى التحالف الصهيو – أمريكي .
وبما أن الولايات المتحدة الأمريكية قد دخلت فعلياً مرحلة الانتخابات الرئيسية مع تصاعد الاحتجاجات الشعبية في المدن الأمريكية الكبرى ضد الحرب ، فمن الصعب تصوّر إمكانية الإدارة الاستمرار في دعم الكيان ولا استمرار الإبادة الجماعية للمدنيين العزّل في (غزّة) ، لأن الولايات المتحدة الأمريكية باتت شريكة فاعلة وفعّالة في ارتكاب مجازر الإبادة المتلاحقة وبشكل يومي ، وهو مايعيد للأذهان صور مجازر الإبادة التاريخية للهنود الحمر في الشمال الأمريكي ، والعمل على ترسيخ ثقافة الإبادة الجماعية لتثبيت وجود الكيان الإسرائيلي المحتل على أرض فلسطين . كما أن التحوّل في لهجة كل من روسيا والصين تجاه ما يحصل في (غزّة) ينذر بأن خطوطاً حمراً قد رُسِمَت وتم الاتفاق الخفي عليها .
فما هي الخيارات الممكنة أمام الحلف الصهيو – أميركي اليوم بعد أن جاء في خطاب السيّد “حسن نصر الله” في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 القول بأن المسار السياسي المستقبلي يحدّده الميدان . وكانت هذه الكلمة المفصلية التي تحدّد أسس المسارات السياسية المستقبلية في غرب آسيا كله . فإذا انتصرت المقاومة كما هو واضح ، وهي ستنتصر ، ليس تلبية لرغباتنا ، بل لأسباب موضوعية يمكن عرضها في مقاربة منفصلة وتلخيصها بعجز عسكري لدى الكيان الإسرائيلي ومعه الحلف الغربي مجتمعين ، إضافة إلى الضعف السياسي والبنيوي لاقتصاد الكيان الإسرائيلي واقتصاد الغرب ، وهذا يعني فيما يعنيه أن التغيير الحتمي والسريع للنظام العربي بات قائماً حالياً . كما يعني أن الحلف الصهيو – أميركي بدأ يفقد متانة وجدوى وجوده . بل يمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك والقول بأن وجود الكيان الاسرائيلي أصبح في طور الزوال الحتمي ، وانهياره يُنذر بانهيار الولايات المتحدة الأمريكية نفسها لأن تشابه نشأة الكيانين على أسس الإبادة والاحتلال ، هي أسس واحدة . وقد يستغرق الانهيار الأميركي وقتاً أطول من وقت انهيار الكيان الإسرائيلي ، لكن إرهاصات التفكّك الفعلي المؤدية إلى الزوال موجودة وضاغطة وبانتظار اللحظة التاريخية لإطلاق عملية التفكّك .
وهذا يطرح السؤال حول إمكانية تساكن أي نظام عربي لم يناصر طموحات جماهير الشوارع العربية مع حركةٍ شعبيةٍ مقاوِمَة انتصرت على العدو التاريخي للأمة العربية وللعالم الإسلامي ككل ، المتمثل بالتحالف الصهيو – غربي . كما أن انتصار المقاومة بكافة مكوّناتها الشعبية يعني سقوط نتائج مرحلة (سايكس – بيكو) وينذر بإنهاء المعاهدات القائمة مع الكيان الإسرائيلي السرية منها والعلنية . كما يعني سقوط (سايكس – بيكو) أن الدخول في مرحلة التشبيك الاقتصادي لمواجهة تحدّيات ما تبقّى من القرن الحادي والعشرين .
هذه التحوّلات الجذريّة في البنيتين السياسية والاقتصادية العربية لن تحصل في المدى القريب إلاّ إذا انتصرت المقاومة في (غزّة) على الكيان الإسرائيلي وحلفائه ومهّدت لزواله في فترة زمنية قد تطول أو تقصر وفقاً لمزاج المستعمرين الذي سيتمسكون بوجود الكيان ، ولكن بشروط تعكسها موازين القوّة الجديدة التي لن يقبلها الإسرائيلي ولكن لا قدرة له على تغييرها . وهذا مايدخل النظام العربي في متاهات الحلول الدولية التي ستحاول الحفاظ على الكيان الإسرائيلي عبر حل الدولتين مهما كانت بشروط غير مقبولة من الكيان الإسرائيلي . وذلك هو الاحتمال الوحيد الذي قد يطيل من عمر بقاء الكيان الإسرائيلي ولكن دون أي آفاق له . لأن الجسم العربي يكون قد لفظ ذلك الكيان حتى وإن دام الصراع أكثر من قرن من السنوات ، لأن مصيره لن يختلف عن مصير حملات الفرنج الصليبية في القرون الوسطى ، ولن يختلف عن مصير الدول المستعمرة التي سبق أن احتلت أراضي الوطن العربي في القرنين الماضيين .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى