الحرية الزائفة
الاستعباد الحديث للمرأة

كتبت: رضوى صقر
تختلف الآراء حول من قاد حركة تحرير المرأة في مصر والوطن العربي بين من يرى أن قاسم أمين هو رائد تلك الحركة مقابل من يرفض تلك الفكرة باعتبارها امتدادًا للسعي القديم لإثبات أن المرأة لم يكن لها دور في تلك المرحلة وأن “أحد الرجال” هو صاحب الفضل في هذا الشأن، حيث يُشير من يرفضون تلك الفكرة إلى أن السيدة هدى شعراوي هي صاحبة الفضل في تحرير المرأة المصرية والعربية من قيودها.
ولا يسعى هذا المقال إلى إثبات أو دحض وجهة نظر أيٍ من الطرفين، ولكن بَدَرَ إلى ذهني، عزيزي القارئ، وعزيزتي القارئة، سؤال أتمنى أن تساعدوني في الإجابة عليه، وهذا السؤال مفاده “هل حقا تحررت المرأة؟” أم أننا نمر بعصر يُمكن أن نطلق عليه عصر الاستعباد الجديد أو التحرير الزائف للمرأة؟!
تُواجه المرأة في مجتمعنا عددًا من الصِعاب والتحديات التي جعلت كثيرًا من الفتيات والسيدات ينقمن على رواد حركة تحرير المرأة من الرجال والسيدات على حد سواء، ودعوني أسألكم قرائي الأعزاء، كم مرة سمعتم تلك العبارة، أو قرأتموها عبر حسابات وصفحات التواصل الاجتماعي، وربما بعض المقالات الصحفية ومقالات الرأي “ربنا يسامحك يا قاسم يا أمين!” أو “منه لله قاسم أمين”، وقد سمعتُ تلك العبارة على المستوى الشخصي في كثير من الأحيان، ليس فقط من جانب صديقاتي وزميلاتي، بل أيضًا من أساتذتي ورئيساتي في العمل، مما يدعو إلى التساؤل حول أسباب تلك المشاعر الحانقة والغاضبة تجاه تحرير المرأة.
في رأيي أن أحد أهم الأسباب وراء تلك المشاعر السلبية هو الربط بين حُرية المرأة وحصولها على فرصة عمل تتساوى فيها مع أقرانها من الرجال في الحقوق والواجبات، حتى أصبح ذلك الربط بمثابة الأمر البديهي الذي لا شك ولا لبس فيه، على الرغم من أن مسألة تحرير المرأة ترتبط بحصولها على عددً كبير من الحقوق التي هي بالأساس حقوق الإنسان الأساسية المعترف بها على مستوى العالم من خلال المواثيق والمعاهدات والمنظمات الإقليمية والدولية على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي ….الخ، ولا تعتبر مسألة مقصورة على عمل المرأة وتوليها المناصب المختلفة بشكل حصري.
في ضوء ذلك الربط بين حرية المرأة وخروجها للعمل، تحملت المرأة مسئوليات إضافية إلى جانب مسئولياتها المتعلقة بدورها في إطار الأسرة والمنزل فيما يتعلق بالاهتمام بشئون المنزل وتربية الأطفال وتعليمهم، والاهتمام بشئون زوجها، وغيرها من المهام التقليدية والطبيعية المنوطة بالمرأة، وبما أن ظروف غالبية الأزواج والزوجات لا تسمح بالاستعانة بمن تساعد المرأة في أعمال المنزل، فقد أدى ذلك إلى مضاعفة أعباء المرأة وحيرتها بين التعب والإرهاق المستمر في مقر عملها الذي لا تستطيع تركه لحاجة الأُسرة إلى راتب الزوجة إلى جانب راتب الزوج للوفاء باحتياجات الحياة اليومية في ظل ارتفاع الأسعار الذي يزداد حدة يومًا بعد يوم، وضرورة وفاءها بواجباتها تجاه أبناءها وزوجها داخل المنزل.
خلاصة تلك المسألة أن عمل المرأة أضاف مزيدًا من القيود والأعباء عليها مما جعل عددًا من فتيات ونساء اليوم يبتعدن تمامًا عن سوق العمل واللجوء إلى البقاء في المنزل مهما كانت الظروف، بالإضافة إلى تذمر السيدات العاملات طوال الوقت من ضغوط العمل المستمرة على الرغم من كافة الامتيازات المادية والمعنوية التي تكفلها الدساتير والقوانين للمرأة العاملة في مجتمعاتنا.
عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة، إن تحرير المرأة يكون من خلال حصولها على التربية الصحيحة، والتعليم بكافة مستوياته ومراحله، وممارسة حقوقها السياسية الكاملة، والاستفادة من مواهبها ومهاراتها وهواياتها الأدبية والفنية والإبداعية والعلمية لتحقيق ذاتها من خلال كل ما تبرع فيه وليس بالضرورة أن يكون ذلك بهدف حصولها على فرصة عمل، إلا إذا كانت ترغب في العمل بالفعل ولديها القدرة النفسية والجسدية التي تمكنها من المواءمة بين مهامها الوظيفية ومسئولياتها تجاه أُسرتها وبيتها.
النقطة الثانية في تلك المسألة، هي أن بعض الزيجات تتم بالأساس لان المتقدم للزواج يرغب في الاستفادة من عمل المرأة التي يسعى للارتباط بها والزواج منها، وبالتالي تشعر تلك المرأة بأن تلك الزيجة قائمة بالأساس على عامل الطمع، وحتى إذا وافقت وقبِلت بذلك الوضع، فإن بعض تلك الزيجات تنهار في وقت لاحق لأن الزوجة لم تعد قادرة على العمل، في الوقت الذي لا يوافق زوجها فيه على تركها عملها بسبب ما سيترتب على ذلك من انكماش القدرة الإنفاقية والشرائية للأُسرة نتيجة بقاء الزوجة في المنزل، أو لأن الزوج يرفض تخلي المرأة عن عملها وينتقدها في ذات الوقت لأنها لا تهتم به نتيجة لانشغالها في عملها مما يُدخل الأُسرة كلها في حلقة متصلة من الخلافات التي تنتهي في كثير من الأحيان بالانفصال أو الطلاق؛ الأمر الذي جعل عددًا من الفتيات والسيدات العاملات يزهدن الزواج خوفًا من ذلك المصير.
ختامًا، تُشير التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية الراهنة إلى أهمية تدخل علماء النفس والاجتماع، والمفكرين، وأصحاب الرأي ذوي الشعبية بين أبناء وبنات المجتمع لتجديد الخطاب الفكري والمجتمعي والنفسي بشأن تحرير المرأة وتعديله بما يتناسب مع التطورات التي شهدها المجتمع منذ الموجة الأولى لتحرير المرأة، وتوسيع مفهوم تحرير المرأة بحيث يصبح تحريرًا حقيقيًا من خلال قدرة المرأة على الاختيار بين المسارات المختلفة، دون أن تَشعر أنها مجبرة على الالتحاق بسوق العمل لاعتقاد الجميع بأن ذلك هو السبيل الوحيد لامتلاك المرأة حريتها وزمام أمورها، فما هي فائدة الاستقلال المالي والمادي إذا كانت المرأة غير قادرة على اختيار البقاء في العمل أو تركه وقتما تشاء؟ وما فائدة ذلك الاستقلال إذا كان يؤدي في كثير من الحالات إلى انهيار الحياة الشخصية، أو تحول المرأة إلى آلة تدور في حلقة متصلة من الإرهاق وتدمير الصحة النفسية والجسدية لها ولأسرتها كاملة.