حين تتوهُ الوقائع .. بقلم د . وحيد عبد المجيد

كثيرةُ الوقائع التائهة عبر التاريخ. وقائعُ يُختلفُ إما عليها من حيث المبدأ، أو على تفاصيل كثيرةٍ أو قليلةٍ فيها. تزييفُ وقائعٍ فى التاريخ حرفةُ قديمة. وتفسيرُ غيرها وفق هوى مؤرخٍ أو كاتب قديمُ أيضًا. بعض ما يُزيَّف، أو يتعرضُ لتأويلٍ مدفوعٍ بأهواء، يُصَحح لاحقًا، فيما يبقى الزيف مستمرًا فى بعضٍ آخر.
وينطبقُ هذا على الأحداث والأشخاص. لكن كتابة بعض الأشخاص مذكراتهم أو ذكرياتهم قد تضعُ حدًا للقدرة على تزييف تاريخهم حين يروون بأنفسهم وقائع عاشوها، خاصةً عندما يلتزمون بالأمانة، ويكشفون سلبياتهم مثلما يُسجلون إيجابياتهم، حتى إذا لم يعرفها أحد غيرهم. خذ مثلاً ذكريات الشاعر الشيلى الكبير بابلو نيرودا (أشهد أننى عشت)0 فقد اعترف بأسوأ ما فعله فى شبابه، حين كان قنصلاً فخريًا لبلاده لدى سيلان (سيريلانكا الآن) إذ اغتصب خادمة المنزل، وأقر بأنها كانت مُحقةً عندما احتقرته.
لكن المهم أن نيرودا لم يترك سيرتَه نهبًا لاختلافٍ على كثيرٍ من جوانبها0 فقد كشف خبايا حياته وأفكاره, وحتى آرائه فى ناقدى شعره، بخلاف آخرين مثل الشاعر الكبير أحمد شوفى الذى لم يترك مذكراتٍ أو ذكريات. وما يجمعُ نيرودا وشوقى أنهما من أعظم شعراء العالم فى القرن الماضى. حمل شوقى لقب أمير الشعراء (العرب)، فيما وُصف شعر نيرودا بأنه بين الأفضل فى العالم، بل رأى جابرييل جارسيا ماركيز أنه أهم شعراء ذلك القرن بكل اللغات.
ولهذا ربما يبقى الاختلافُ مستمرًا على هذا الجانب أو ذاك فى سيرة شوقى, ويتواصلُ من ثم الخوضُ فيها والجدالُ حولها إيجابًا وسلبًا, فيتوهُ ما قد يكونُ حقيقيًا بها فى ثنايا كتاباتٍ يُحملُ فى بعضها عليه, ويُدافعُ عنه فى غيرها0 وقد لا يكونُ كتابُ الشاعر المُبدع أحمد عنتر مصطفى (شوقى الآخر) الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب آخر الأعمال التى تأخذُ خط الدفاع عن شوقى، فى مواجهة ما يراه المؤلفُ اتهاماتٍ وشائعات عنه حيًا وميتًا.
ونجدُ مثل هذا التناقض فى حالاتٍ عدة تتوهُ فيها وقائعُ تاريخية. فالنظرةُ الأحاديةُ، التى لا يظهرُ فيها إلا أبيضُ وأسود, غالبةُ فى ثقافتنا.