خداع النفس (2)
آفة عصرنا المظاهر
تحدثنا في المقال السابق عن خداع النفس عن طريق التدين الظاهري، والذي لا ينعكس إيجابًا على خُلُق وسلوك الأفراد، وبالتالي التأثير الإيجابي على الصحة النفسية للمجتمع ككل، وإنما أدى التمسك بمظاهر التدين دون جوهره إلى انفصام الفرد والعديد من التأثيرات السلبية وربما الخطيرة على المجتمع، والتي جعلت الحياة اليومية أصعب، بدلاً من تيسيرها وتهوين أهوالها.
كان الحديث في ذلك المقال عن خداع للنفس ينعكس على المجتمع، أما اليوم فنتحدث عن خداع للنفس ينعكس على الفرد ذاته بالأساس كنوع من أنواع الهروب من الواقع المؤلم من حوله، أو كآلية للتعامل مع اغتراب الفرد عن أسرته، أو مجتمعه، أو زمانه وأبناء جيله.
وبدلاً من الشرح والتفصيل الذي قد لا يُوضح ما نقصده للقارئ، سنضرب مثالاً يدلل على ما نريد قوله، فعلى سبيل المثال، نجد بعض الأفراد يشترون أجهزة راديو (مذياع) حديث به مخرج USB ومدخل لبطاقة الذاكرة (كارت ميموري)، وربما مشغل اسطوانات CD أو DVD، إلا أن المفاجأة أن الجهاز نفسه يشبه جهاز الراديو التقليدي القديم الخشبي، ذي الأزرار المستديرة، كما يظهر في أفلام سينما الأبيض وأسود.
يُعبر ذلك عن حنين إلى الماضي، واغتراب عن الواقع الحالي، وسعي يائس إلى المواءمة والموازنة بين القديم والحديث، أو كما يقول المتخصصون بين الأصالة والمعاصرة، وذلك من خلال هيكل يشبه ما كان قديمًا إلا أن جوهره حديث يواكب العصر.
هنا تظهر إشكاليتان، الأولى أن الأذكياء من المُصَنعيِن ورجال الأعمال يسعون لاستغلال ذلك الحنين إلى الماضي لإنتاج أجهزة وملابس وسلع تشبه ظاهريًا ما كان موجودًا في الماضي، إلا أنه من ناحية الجوهر يتماشى مع متطلبات العصر، ومع تراوح الأسعار بين البسيط والباهظ.
الإشكالية الثانية، أن تلك السلع والأجهزة لا تُعيدك إلى الماضي، ولا تُعطيك شعورًا حقيقيًا بالألفة في مقابل الاغتراب الذي تشعر به؛ لا لشئ سوى لأنها ليست حقيقية، أي أنك تخدع نفسك بنفسك، مما يزيد في رأيي المتواضع من انفصامك، واغترابك عمن حولك وليس العكس.
وتعتبر تلك التوجهات امتدادًا لتمسكنا المخيف، إلا من رحم ربي، بالمظاهر دون الاهتمام بالجوهر الفعلي للأشياء والأمور والسلوكيات، وبالتالي التعامل مع كل شئ حولنا بأسلوب سطحي يُشبه ما تحولت إليه حياتنا من نمط الـTake Away.، وبالتالي التعامل مع ذلك الشعور الداخلي بالحنين بأسلوب سطحي يُعالج الأعراض ولا يعالج الأمراض.
أنا أدعوكم هنا قرائي الأعزاء إلى التفكر في حل لتلك المسألة، فليس صعبًا أبدًا أن نحافظ على هوياتنا على مستوى المظهر والجوهر مع استمرار مواكبة العصر الذي نعيش فيه، ليس صعبًا أن تعيش بالطريقة التي تتمناها وبالأسلوب الذي تحبه، ولكن ستكون العقبة الأساسية أمامك هي انتقاد الآخرين لك بدعوى أنك “دقة قديمة” أو “متحجر” أو محبكها” وهو ما سنتناوله في مقالنا القادم غن شاء الله.