الدكرورى يكتب/ أبي ذر الغفاري يكفل القاتل

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد جاء في كتاب أعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس حيث قال شرف الدين حسين بن ريان أغرب ما سمعته من الأخبار وأعجب ما نقلته عن الأخيار ممن كان يحضر مجلس عمر بن الخطاب أمير المؤمنين ويسمع كلامه قال بينما الإمام جالس في بعض الأيام وعنده أكابر الصحابة وأهل الرأي والإصابة وهو يقول في القضايا ويحكم بين الرعايا إذ أقبل شاب نظيف الأثواب يكتنفه شابان من أحسن الشبان نظيفا الثياب قد جذباه وسحباه وأوقفاه بين يدي أمير المؤمنين ولبباه فلما وقفوا بين يديه نظر إليهما وإليه فأمرهما بالكف عنه فأدنياه منه وقالا يا أمير المؤمنين نحن أخوان شقيقان جديران بإتباع الحق حقيقان، وكان لنا أب شيخ كبير حسن التدبير معظم في قبائله.

منزه عن الرذائل معروف بفضائله ربانا صغارا، وأعزنا كبارا وأولانا نعما غزارا، كما قيل لنا والد لو كان للناس مثله أب آخر أغناهم بالمناقب خرج اليوم إلى حديقة له يتنزه في أشجارها، ويقطف يانع ثمارها، فقتله هذا الشاب، وعدل عن طريق الصواب، ونسألك القصاص بما جناه، والحكم فيه بما أراك الله، قال الراوي فنظر عمر إلى الشاب وقال له قد سمعت فما الجواب ؟ والغلام مع ذلك ثابت الجأش، خال من الاستيحاش قد خلع ثياب الهلع ونزع جلباب الجزع، فتبسم عن مثل الجمان وتكلم بأفصح لسان وحياه بكلمات حسان ثم قال يا أمير المؤمنين والله لقد وعيا ما ادعيا وصدقا فيما نطقا وخبرا بما جرى وعبرا بما ترى وسأنهي قصتي بين يديك والأمر فيها إليك اعلم يا أمير المؤمنين أني من العرب العرباء أبيت في منزل البادية وأصبح على أسود السنين العادية. 

فأقبلت إلى ظاهر هذا البلد بالأهل والمال والولد فأفضت بي بعض طرائقها إلى المسير بين حدائقها بنياق حبيبات إلي، عزيزات علي، بينهن فحل كريم الأصل وكثير النسل ومليح الشكل، حسن النتاج يمشي بينهن كأنه ملك عليه تاج، فدنت بعض النوق إلى حديقة قد ظهر من الحائط شجرها فتناولته بمشفرها فطردتها من تلك الحديقة، فإذا شيخ قد زمجر وزفر، وتسور الحائط وظهر وفي يده اليمنى حجر، يتهادى كالليث إذا خطر، فضرب الفحل بذلك الحجر، فقتله وأصاب مقتله، فلما رأيت الفحل قد سقط لجنبه وانقلب توقدت في جمرات الغضب فتناولت ذلك الحجر بعينه فضربته به فكان سبب حينه ولقي سوء منقلبه والمرء مقتول بما قتل به بعد أن صاح صيحة عظيمة وصرخ صرخة أليمة فأسرعت من مكاني فلم يكن بأسرع من هذين الشابين فأمسكاني وأحضراني كما تراني. 

فقال عمر رضي الله عنه قد اعترفت بما إقترفت وتعذر الخلاص ووجب القصاص ولات حين مناص، فقال الشاب سمعا لما حكم به الإمام ورضيت بما اقتضته شريعة الإسلام، لكن لي أخ صغير كان له أب كبير خصه قبل وفاته بمال جزيل وذهب جليل وأحضره بين يدي وأسلم أمره إلي، وأشهد الله علي وقال هذا لأخيك عندك فاحفظه جهدك فاتخذت لذلك مدفنا ووضعته فيه ولا يعلم به إلا أنا فإن حكمت الآن بقتلي ذهب الذهب وكنت أنت السبب وطالبك الصغير بحقه يوم يقضي الله بين خلقه وإن أنظرتني ثلاثة أيام أقمت من يتولى أمر الغلام، وعدت وافيا بالذمام ولي من يضمنني على هذا الكلام، فأطرق عمر رضي الله عنه، ثم نظر إلى من حضر، وقال من يقوم على ضمانه والعود إلى مكانه ؟ قال فنظر الغلام إلى وجوه أهل المجلس الناظرين. 

وأشار إلى أبي ذر الغفاري دون الحاضرين وقال هذا يكفلني ويضمنني، فقال عمر رضي الله عنه يا أبا ذر، تضمنه على هذا الكلام ؟ قال نعم أضمنه إلى ثلاثة أيام، فرضي الشابان بضمانة أبي ذر وأنظراه ذلك القدر فلما إنقضت مدة الإمهال وكاد وقتها يزول أو قد زال حضر الشابان إلى مجلس عمر رضي الله عنه والصحابة حوله كالنجوم حول القمر، وأبو ذر الغفاري قد حضر والخصم ينتظر، فقالا أين الغريم يا أبا ذر ؟ كيف يرجع من فر، لا تبرح من مكاننا حتى تفي بضماننا، فقال أبو ذر رضي الله عنه وحق الملك العلام إن انقضى تمام الأيام ولم يحضر الغلام وفيت بالضمان وأسلمت نفسي وبالله المستعان، فقال عمر رضي الله عنه، والله إن تأخر الغلام لأمضين في أبي ذر، ما إقتضته شريعة الإسلام، ففهمت عبرات الناظرين إليه وعلت زفرات الحاضرين عليه.

وعظم الضجيج وتزايد النشيج فعرض كبار الصحابة على الشابين أخذ الدية واغتنام الأثنية فأصرا على عدم القبول وأبيا إلا الأخذ بثأر المقتول، فبينما الناس يموجون تلهفا لما مر، ويضجون تأسفا على أبي ذر إذ أقبل الغلام ووقف بين يدي الإمام وسلم عليه أتم السلام ووجهه يتهلل مشرقا ويتكلل عرقا وقال قد أسلمت الصبي إلى أخواله، وعرفتهم بخفي أمواله وأطلعتهم على مكان ماله، ثم اقتحمت هاجرات الحر ، ووفيت وفاء الحر، فعجب الناس من صدقه ووفائه وإقدامه على الموت واجترائه، فقال من غدر لم يعف عنه من قدر، ومن وفى رحمه الطالب وعفا وتحققت أن الموت إذا حضر لم ينجو منه إحتراس كي لا يقال ذهب الوفاء من الناس، فقال أبو ذر والله يا أمير المؤمنين لقد ضمنت هذا الغلام ولم أعرفه من أي قوم ولا رأيته قبل ذلك اليوم.

ولكن نظر إلي دون من حضر فقصدني وقال هذا يضمنني فلم أستحسن رده، وأبت المروءة أن تخيب قصده إذ ليس في إجابة القاصد من بأس كي لا يقال ذهب الفضل من الناس، فقال الشابان عند ذلك، يا أمير المؤمنين قد وهبنا هذا الغلام دم أبينا، فبدل وحشته بإيناس كي لا يقال، ذهب المعروف من الناس، فاستبشر الإمام بالعفو عن الغلام وصدقه ووفائه وإستفزر مروءة أبي ذر دون جلسائه وإستحسن إعتماد الشابين في إصطناع المعروف وأثنى عليهما أحسن ثنائه، وتمثل بهذا البيت “من يصنع الخير لم يعدم جوائزه لا يذهب العرف بين الله والناس” ثم عرض عليهما أن يصرف من بيت المال دية أبيهما، فقالا إنما عفونا إبتغاء وجه ربنا الكريم ومن نيته هكذا لا يتبع إحسانه منا ولا أذى.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى