الزهرة العناق تكتب: التربية عماد الدين وسراج العقول وميزان القلوب

 

التربية ليست حروفا تلقن في المؤسسات التعليمية، بل هي نبض يغرس، كالشجرة لا تنمو في أرض قاحلة، بل تحتاج تربة خصبة من القيم، و سقيا من الحب، ونورا من الحكمة.

بالتربية تبنى الأمم، وتشيد الحضارات، فإن صلحت، كان الإنسان عمودا لا يهتز، وإن فسدت، انهار بنيانه قبل أن تلمسه الريح.

إنها الفن الذي لا تراه العيون، لكن تصنعه الأرواح، فتضيء به الدروب، و تصقل به النفوس، و يبنى به الإنسان قبل العمران.

إنها رسالة الأنبياء، و إرث الحكماء، و بذرة الخير التي إن رويت بحسن التوجيه، أينعت عدلا و رشدا، وإن أهملت، ذبلت فكانت النتيجة النهائية هو الضياع و الشتات.

..أزمة التربية في زمن الحداثة

في عصر تتسارع فيه الأحداث وتتغير فيه القيم، نجد أنفسنا أمام أزمة حقيقية في التربية الأسرية. لم يعد البيت ذاك الحصن المتين الذي يحفظ المبادئ، بل أصبح ساحة صراع بين الآباء الذين يخشون فقدان أبنائهم، و الأبناء الذين ينجرفون مع تيارات لا ترحم.

إن التحديات التي يواجهها الآباء اليوم لم تعد تقتصر على تأمين المعيشة أو توفير التعليم الجيد، بل تجاوزت ذلك إلى محاولة الحفاظ على منظومة القيم التي بدأت بالتآكل شيئًا فشيئًا. فالأب الذي كان يوما قدوة في الحزم والتوجيه أصبح مترددا، يخشى أن يفقد ابنه بسبب كلمة عتاب أو تصحيح مسار، و الأم التي كانت تحتضن ابنتها بحب وتعلمها أصول الحياة باتت تخشى أن تصير غريبة عنها إن حاولت وضع الحدود.

في ظل هذا التخوف من المجهول و التغاضي، يكبر الأطفال دون أن يدركوا معنى الالتزام، فكل شيء متاح دون قيود، وكل رأي مقبول دون مساءلة، وكل تصرف مبرر دون عواقب. ومع غياب المراقبة وانعدام الحزم، يتراجع الإحساس بالمسؤولية، ويتحول البيت إلى مجرد مأوى، لا يحمل روح التربية ولا رسالة التوجيه.

والمفارقة هي أن الآباء يسارعون إلى تأمين كل ما يحتاجه الطفل من وسائل الترفيه، و التعليم، و الراحة، لكنهم يغفلون عن بناء منظومته الأخلاقية، فينمو دون بوصلة تحدد له الصواب من الخطأ. وحين تظهر النتائج الكارثية بسبب الإهمال، يبدأ الجميع بإلقاء اللوم على المجتمع، أو الإعلام، أو حتى التكنولوجيا، متناسين أن التربية تبدأ من الداخل، من قلب الأسرة، ومن قدرة الأبوين على توازن دقيق بين الحب والحزم، بين الاحتواء والتوجيه، وبين الحرية والمسؤولية.

إن إصلاح الخلل يبدأ بقرار واع من الأسرة باستعادة دورها، بأن يكون الأب حاضرا ليس بسلطته بل بحكمته، وأن تكون الأم قوية ليس بفرض الأوامر بل بزرع القيم. فالطفل الذي لا يجد في منزله مرجعية أخلاقية لن يجدها في مكان آخر، وإذا لم يكن البيت حصنا للمبادئ، فإن العالم الخارجي لن يكون سوى ميدان فوضى يأخذ منه ما يشاء ويرفض منه ما لا يناسب أهواءه.

التربية لا تعني الرفاهية، و لا الخيار الثانوي، بل إنها الأساس الذي يبنى عليه المجتمع، وأي تهاون فإنه يعد تهاون في مستقبل أمة بأكملها.

التربية ليست قيدا يحد، بل جناح يحلق، ولا سياجا يقيد، بل بوابة تفتح على دروب الفضيلة. فإما أن تكون ذا تربية حسنة، لك صدى في وسط الأجيال القادمة، أو فراغا لا يذكر إلا حين يفوت الأوان

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى