تربية البنات .. الكاتبة/ الزهرة العناق

في كل بيت تولد فيه بنت، تتهامس الملائكة: “ها قد أتى النور من جديد.”
وفي كل قلب يختار أن يحتضنها بالرحمة لا بالقيود، تزهر سنبلة في صحراء الدنيا، وتبعث حياة لم تكن لتخلق لولا دفء تلك الكف التي أمسكت بأناملها الصغيرة يوم ميلادها.
البنت ليست “كلفة” تعد، ولا “هما” يدفن كما كان في الجاهلية، بل وعد إلهي بالرزق والبركة، جاء به قول الله تعالى حين قال:
{يهب لمن يشاء إناثا و يهب لمن يشاء الذكور}
فالآية لم تبدأ بالذكور، بل قدمت الإناث، وكأنها تصحح ميزانا أمالته العقول العقيمة.
تربية البنت ليست بناء جدار يحميها، بل غرس جذور تجعلها ثابتة إن عصفت بها ريح الحياة. هي رحلة تعليم لا تقتصر على الدروس، بل تشمل كيف تعتز بنفسها، وتفهم كرامتها، وتفكر بعقل حر، وتحيا بقلب نقي.
ذات مساء، سألني قلبي: ماذا لو كانت الجنة في ضحكة فتاة ربيتها؟
فأجبته: يكفيني قول النبي صلى الله عليه وسلم:
( مَن عال ابنتينِ أو ثلاثًا، أو أختينِ أو ثلاثًا، حتَّى يَبِنَّ (ينفصلن عنه بتزويج أو موت)، أو يموتَ عنهنَّ كُنْتُ أنا وهو في الجنَّةِ كهاتينِ – وأشار بأُصبُعِه الوسطى والَّتي تليها ) رواه ابن ماجه
من يربي بنتا يكتب على جبين الدهر سيرة من نور، ويعلمها كيف تكون قوية لا بغلظة، بل بحكمة، وكيف تحمي نفسها لا بالحذر، بل باليقين، وكيف تصمت حين يراد بها الضعف، وتنطق حين يحتاج منها الوقوف.
تعد تربية البنات واحدة من أسمى المهمات التي تختبر صدق الإنسان و إنسانيته. إنها ليست مهمة عابرة، ولا مجرد أداء لواجب اجتماعي، بل رسالة ممتدة بين الأرض والسماء، تسجل تفاصيلها في صحائف القدر، وتؤجر على خطاها الأرواح، وتوزن بها الموازين يوم لا ينفع مال ولا بنون.
البنت ليست عبئا كما تصورها بعض العقول العاجزة، ولا كائنا هشا كما رسمتها الموروثات المغلوطة، بل هي وطن صغير، إن أحسنت غرس القيم فيه، أثمر حنانا ورحمة وجمالا لا ينضب. في بيت تربى فيه البنات على العزة والعفاف، يزهر المجتمع بأكمله، لأن الفتاة صانعة الأجيال، ومربية القادة، و بانية الوعي قبل الطوب.
تربية البنات لا تقوم على المنع والتخويف، بل على الفهم و التفاهم والتقدير. أن تربى بنتا يعني أن تزرع في قلبها النور، وتغرس في عقلها الحكمة، و تعلمها أن تكون حرة بإيمانها، قوية بحيائها، سامية بأخلاقها. فليس من العدل أن نطالب الفتاة بالسمو ونحن نقيدها بنظراتنا المحبطة، أو نحاسبها على الهفوات بطريقة فظة و نتغافل عن حاجتها للاحتواء.
أما الجزاء؟ فهو أوسع من أن يختصر في حديث أو يقاس بمقابل. يكفي أن رسول الرحمة صلّى الله عليه وسلّم بشر من أحسن تربية بناته بكنز من كنوز الآخرة: “من ابتلي من هذه البنات بشيء، فأحسن إليهن كن له سترا من النار”. أي جائزة أسمى من أن تكون تربية البنات طريقا للنجاة؟ وأي فخر أرفع من أن تكون أبا أو أما لفتاة تصنع الفرق في زمن يحتاج إلى النور؟
أي مكافأة أعظم من أن يفتح لك باب من أبواب الجنة لأنك دللت قلبًا صغيرا كان يمكن أن ينكسر، لكنه بعينك وعقلك وحنانك، نهض، وأشرق، وسار في الأرض ملاكا على هيئة امرأة.
تربية البنات مسؤولية تنبع من القلب، تبنى بالحب، و تكلل بالرضا الإلهي.
تربية البنات ليست وظيفة، بل تشريف، وليست تعبا، بل عبادة خالصة، يتقرب بها المرء إلى ربه، وينقي بها نفسه من شوائب الدنيا.
لنغرس في بناتنا الأمل، ولنملأ صدورهن بالثقة، ولنعلمهن أن العالم لا يغيره الصخب، بل أنوثة واعية تملك عقلا راجحا، وقلبا نقيا، و سلوكا يعبر عن قيم عالية.