أغلى ما يملك المرء

بقلم / محمـــد الدكـــروري
الحمد لله خلق الخلق فأتقن وأحكم، وفضّل بني آدم على كثير ممن خلق وكرّم، أحمده سبحانه حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، يليق بجلاله الأعظم، وأشكره وأثني عليه على ما تفضل وأنعم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأعز الأكرم، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله المبعوث بالشرع المطهر والدين الأقوم، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد إنه يمكن تقسيم الوطنية إلى نوعين هما الوطنية المتشددة، والوطنية المعتدلة، حيث تدعي المتشددة أن الولاء الوطني هو المصدر الوحيد لأي مطالب أخلاقية ذات مغزى، لذا فإن محتوى الوطنية هو دائما خاص أو محلي، فالولاء الذي يطالب به الوطنيون هو ببساطة عبارة عن أي قيم تعتبر مهيمنة داخل دولة أو مجتمع، كما ظهر الجزء الأكبر.
من الكتابات الأخيرة عن الوطنية ضمن الفئة المعتدلة حيث تحاول التوسط بين العالمية والمحلية، وكذلك الوطنية لبلدان أخرى حيث توجد أمثلة تاريخية على الأفراد الذين قاتلوا من أجل استقلال بلادهم، وفي هذا الرأي لا يمكن للوطنية بحكم تعريفها أن تكون إلا تفضيلا للبلد الأم، وليس تفضيلا للمثل العليا التي يُعتقد أن بلدا ما تقف وراءها، بسبب ذلك تساهم مفاهيم أخرى عن الوطنية في السماح للإنسان الوطني الحقيقي أن ينتقد بلده بسبب فشلها في الارتقاء إلى المثل العليا، كما يمكن أن يصبح وطنيا للدول الأخرى التي تتطابق قضاياها مع قضاياه، وإن أغلى ما يملك المرء الدين والوطن، وما من إنسان إلا ويعتز بوطنه لأنه مهد صباه ومدرج خطاه ومرتع طفولته، وملجأ كهولته، ومنبع ذكرياته، وموطن آبائه وأجداده، ومأوى أبنائه وأحفاده، حتى الحيوانات لا ترضى بغير وطنها بديلا
ومن أجله تضحي بكل غالى ونفيس، ولقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب مكة المكرمة مودعا لها وهي وطنه الذي أخرج منه، فقد روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة “ما أطيبك من بلد، وأحبك إليّ، ولولا أن قومي أخرجوني منكى ما سكنت غيرك” رواه الترمذي، فقد قالها بلهجة حزينة مليئة أسفا وحنينا وحسرة وشوقا، مخاطبا إياها “ما أطيبك من بلد” ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معلم البشرية، يحب وطنه لما قال هذا القول الذي لو أدرك كل إنسان مسلم معناه لرأينا حب الوطن يتجلى في أجمل صوره وأصدق معانيه، ولأصبح الوطن لفظا تحبه القلوب، وتهواه الأفئدة، وتتحرك لذكره المشاعر، ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم الجحفة في طريقه إلى المدينة اشتد شوقه إلى مكة، فأنزل الله عليه قوله تعالى.
فى سورة القصص ” إن الذى فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد” أي لرادك إلى مكة التي أخرجوك منها، وقيل في تفسير الآية أنه يتوجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خلفه القلة المسلمة التي كانت يومها بمكة، يتوجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مخرج من بلده، مطارد من قومه، وهو في طريقه إلى المدينة التي لم يبلغها بعد، فقد كان بالجحفة قريبا من مكة، قريبا من الخطر، يتعلق قلبه وبصره ببلده الذي يحبه، والذي يعز عليه فراقه لولا أن دعوته أعز عليه من بلده وموطن صباه، ومهد ذكرياته، ومقر أهله، يتوجه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في موقفه ذلك، فما هو بتاركك للمشركين، وعندما هاجر إلى المدينة، واستوطنها ألفها، بل كان يدعو الله أن يرزقه حبها، فيقول صلى الله عليه وسلم.
“اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد” رواه البخاري، فهو يدعو الله بأن يرزقه حب المدينة أشد من حبه لمكة، لاستشعاره بأنها أصحبت بلده ووطنه التي يحن إليها، ويسر عندما يرى معالمها التي تدل على قرب وصوله إليها، ومثلما دعا بحبها فقد دعا لها “اللهم اجعل بالمدينة ضِعْفَي ما جعلت بمكة من البركة” رواه البخاري، وفي رواية الإمام مسلم “اللهم بارك لنا في تمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعا لمكة، ومثله معه” رواه مسلم، ومن دعاء إبراهيم عليه السلام لمكة ودعاء محمد للمدينة يظهر حبهما لتلك البقعتين المباركتين، اللتين هما موطنهما، وموطن أهليهما، ومستقر عبادتهم.