أخر الأخبار

النساء في السياسة: لماذا لا نجرّب العالم بوجهه الآخر؟

النساء في السياسة: لماذا لا نجرّب العالم بوجهه الآخر؟

عريفة البراج – بيروت

عندما نتحدّث عن مشاركة النساء في العمل السياسي، فإننا لا نناقش مسألة تمكين أو مساواة فقط، بل نتناول قضية تتعلق بجوهر استقرار المجتمعات وتطورها. إن إشراك النساء في السياسة ليس رفاهية ولا مجرد استجابة لضغوط حقوقية، بل هو ضرورة استراتيجية لضمان قرارات أكثر توازناً، وسياسات أكثر شمولاً، ومستقبل أكثر استدامة. فالسياسة ليست مجرد صناعة قرارات، بل هي انعكاس لرؤية المجتمع لنفسه ولمستقبله، وعندما تغيب المرأة عن المشهد السياسي، فإن المجتمع يحكم على نفسه بنصف رؤية ونصف حلول، لأن السياسات التي تُصاغ بمنطق أحادي تفتقر إلى الفهم العميق لاحتياجات جميع فئاته، مما يؤدي إلى غياب التشريعات التي تعالج قضايا محورية مثل حقوق الأسرة، الصحة، التعليم، والاقتصاد الاجتماعي.

لكن الحديث عن تمثيل المرأة في السياسة لا يجب أن يقتصر على زيادة عدد النساء في المناصب القيادية، بل يجب أن يتجاوز الأرقام ليصل إلى جوهر المشاركة، وهو ضمان أن تكون أصوات النساء حرة، مستقلة، ومؤثرة في القرارات المصيرية. المطلوب ليس فقط وصول النساء إلى السلطة، بل أن يحملن معهن رؤى جديدة، وأفكارًا قادرة على إحداث تغيير حقيقي، بعيدًا عن الصورة النمطية التي تضعهن في أدوار شكلية أو محدودة التأثير. ورغم ذلك، لا تزال بعض المجتمعات تكرّر مقولة أن “المرأة غير جاهزة للعمل السياسي”، وكأن السياسة مهارة فطرية يولد بها الرجال وحدهم! لكن المفارقة أن الكفاءة والخبرة لا تُطرحان بنفس الإلحاح عندما يتعلق الأمر بالرجال، مما يكشف أن المشكلة ليست في قدرة المرأة، بل في الموروث الثقافي الذي يضعها دائمًا في موقع من يحتاج إلى إثبات ذاته، بينما يُمنح الرجل الفرصة دون مساءلة.

إن مشاركة النساء في العمل السياسي لا تقتصر على الجانب القانوني أو الحقوقي فقط، بل لها تأثير نفسي وثقافي عميق. فعندما يرى الأطفال والفتيات والسيدات أن النساء قادرات على قيادة دول واتخاذ قرارات مصيرية، فإن ذلك يعيد تشكيل الوعي الجماعي حول مفهوم القيادة، فيصبح أمرًا طبيعيًا أن تتولى المرأة مواقع القرار، بدلاً من أن يُنظر إليها على أنها استثناء أو حالة فردية. هذا التحول الذهني هو الأساس في بناء مجتمع أكثر عدالة، حيث تُقاس الكفاءة بالقدرات، لا بالجندر.

ورغم أن البعض لا يزال يصوّر السياسة على أنها عالم صاخب وصراعي “لا يناسب النساء”، إلا أن الواقع يُثبت العكس. السياسة ليست مجرد حروب كلامية ومواجهات، بل هي في جوهرها إدارة للحياة اليومية للناس، وهي بحاجة إلى مهارات التفاوض، الحوار، وإيجاد الحلول، وهي كلها مهارات تتقنها النساء بحكم أدوارهن الاجتماعية المتنوعة. المشكلة لم تكن يومًا في عدم ملاءمة السياسة للمرأة، بل في الأنظمة التي تم تصميمها بطريقة تعيق وصولها إلى مواقع التأثير، مما يجعل التحدي الحقيقي ليس في إثبات قدرة النساء، بل في إعادة تشكيل هذه الأنظمة لتكون أكثر شمولًا وعدالة.

وهنا يمكن طرح فكرة صادمة، لكنها تستحق التفكير: ماذا لو جُرّب عالم بلا رجال في السياسة، كما جُرّب لعصور عالم بلا نساء؟ ماذا لو حكمت النساء العالم لعقود كما فعل الرجال، وتم اختبار نتائج ذلك على المجتمعات؟ ليس من باب الإقصاء أو التحيّز، بل كتجربة عادلة بعد قرون من احتكار الرجال للقرار السياسي. لماذا يُنظر إلى وجود النساء في مواقع السلطة كاستثناء يحتاج إلى إثبات، بينما وجود الرجال هو القاعدة؟ ربما لو انقلبت المعادلة ولو لفترة، لرأينا كيف يمكن لسياسات أكثر إنسانية، وأقل دموية، وأكثر استدامة أن تتشكل.

إن دخول النساء إلى عالم السياسة ليس خيارًا ولا امتيازًا، بل هو واجب وطني وحق أصيل. لا يمكن للمرأة أن تبقى في موقع المتفرّج على السياسات التي تتحكم بمصيرها، بل عليها أن تكون جزءًا فاعلًا في صناعتها، لأن الحقوق لا تُمنح، بل تُنتزع بالمشاركة والإصرار. وعندما تكسر النساء الحواجز المفروضة عليهن، فإنهن لا يفتحن الأبواب لأنفسهن فقط، بل يمهّدن الطريق لأجيال قادمة من النساء اللواتي لن يُسألن يومًا: “هل أنتِ جاهزة؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى